(بِيضٌ صنائعنا سُودٌ وقائعنا خضْرٌ مرابعنا حمرٌ مَواضينا) ([1]).
صفحة الحياة لوحة غنَّاء أبدعها بارئ الأرض والسماء، فحفلت بعدد لامحدود من الألوان التي زيَّنت الكون، والإنسان، والنبات، والحيوان، والجماد. وتميَّز كل لون منها بدلالة جماليَّة ورمزيَّة جعلته أثيرًا لدى البعض ومنبوذًا لدى البعض الآخر حسب الجنس، والسن، والحالة البدنية والمزاجية؛ فاللون الأحمر معروف بدلالته المثيرة للأعصاب والرامزة للغضب والثأر، والأزرق باعث على الهدوء ورامز للصداقة والسكينة، واللون الداكن مُحبِط وجالب للاكتئاب ورامز للغموض والإبهام، والأسود دليل الفخامة والرِّفعة ورمز للحزن والموت، والأبيض دليل البراءة والصدق ورامز للسلام والصفاء... أما الأخضر فله التحية والسلام.
مَن مِنَّا لا يحب اللون الأخضر؛ الذي يزيِّن الحقول والبساتين، ويفتح ذراعيه مؤذنًا بالمرور عبر الإشارة في الطريق، ويزركش سندس أهل الحبور في جنَّات النعيم (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) ([2])؟ على ألا يغيب عن ذهننا أن النهج القرآني في تشبيه نعمة في الدنيا بأخرى في الآخرة إنما هو للتقريب لا للمضاهاة، فما مِن شبَهٍ بين نعمة في الدنيا وصنوها في الآخرة إلا في الاسم فحسب.
من الخطر أن يكون المرء أديبا. نحن قوم حالمون واسعو الخيال، مفرطو التفاؤل، متطرفو التشاؤم، نفلسف ما لا يُفلسف، نبحث عن الترميز في كل مكان، نجتهد في فك شفرته. ولهذا كله، نحن كائنات تصنع خيبة أملها بنفسها، وتبحث عن الأسى بملقط. هل أتجنى؟ اقرؤوا ما حدث لي.
كنت في زيارة لمتحف Wellcome Collection في لندن. كان متحفا طبيا عاديا إلى أن صادفت ذاك الهيكل العظمي؛ هيكل بلاستيكي مُصنّع لا يخيف البتة، معلّق بخيط معدني يتدلى من السقف. مهلا، يبدو أنه وقع وتفكك، وأخطأ عمال الصيانة في تركيبه! هذا الهيكل الذي ترون في الصورة يحتل فيه الحوض مكان الرأس، في حين هبط الرأس ليقبع مكان الحوض!
ويضج صدري بالفضول، ويحق لي ذلك فالمتحف يصف نفسه بأنه "مقصد لمن فضولهم لا بُرء منه". أبحث عن الموظفة لأنبهها إلى الخطأ، ثم يمور في صدري هاجس آخر؛ ماذا لو كان الأمر مقصودا؟ ماذا لو كان الفنان الذي صنع الهيكل ركّبه هكذا ليوصل رسالة ما. أتراجع عن مناداة الموظفة، أتراجع حتى عن الرغبة في سؤالها عن السر الذي قد يكون الفنان قصده، التقط صورة، وأعاهد نفسي على التأمل في المسألة.
آها! الآن أدركت معنى العبارة القابعة خارج المتحف: "كلما تمعنت فيه، ازدادت مخالفته للمألوف". الشيء الرائع حقا، الأصيل في روعته، يزيدك دهشة كلما تمعنت فيه، روعته لا تنضب، ومعانيه لا تنقضي، إنه المعنى المتجدد الذي لا يندرس.
كان المال ولا يزال وسيبقى على مر الأزمان والدهور فتنة للناس وامتحانًا موثوقًا ليميز الناس الخبيث من الطيب، والصادق من المنافق، والكريم من اللئيم، والمخلص من المرائي. وقد غدا المال اليوم، وكذلك الأمر دائمًا، من أجلى صور الفساد، والظلم، والاستبداد؛ خصوصًا بين زمرة الحكام الذين استأثروا بأموال الشعوب وجعلوها دولة بينهم وأقاموا بينها وبين الناس سورًا عظيمًا له باب باطنه فيه كنز الأموال، وادخارها، وتهريبها إلى بنوك الدول المتقدمة، وظاهره من قبله التدثر بأسمال الزهد، والدروشة، والحرص على أموال الشعب والرغبة عنها وعدم الطمع فيها.
وقد عملت الدول الديمقراطية والمتقدمة على دسترة أجور الحكام وقوننتها لئلا يتغول غير ذوي العفة منهم أموال الناس، ويأكلوها إلى أموالهم بغير الحق، ويحتازوا أرزاق العباد، ويكنزوا الذهب والفضة؛ فأسسوا لذلك أعرافًا سياسية وقانونية تحتذى من خلال محاسبة العديد من القادة والحكام، وإدانتهم بالتهم الموجهة إليهم، ومعاقبتهم بما يستحقون من صور الغرامات والحبس وغيرها.
أما في الدول المتخلفة، المستبدة عمومًا والدول العربية خصوصًا، فإن الأموال فيها مستباحة من قبل الحاكم، يصول فيها ويجول كما يشاء دون حسيب أو رقيب. ويا ليت الأمر يتوقف عند هذه العتبة؛ فأموال الأمة متاحة لكل من يدعي خدمة أعتاب الحكام وأنظمتهم في أي دائرة من دوائره، مهما كانت بعيدة عن بؤرة الحكم. والأدهى من ذلك غياب المحاسبة والعقاب، والأمرُّ منه بدعة العفو عما سلف مما يشجع ذوي النفوس المريضة على الخوض في أموال الأمة واستخلاص ما تسمح به مدة المكوث والاستقرار في المنصب، فيعمل "المسؤول" على اختلاس الأموال، واقتطاع الإقطاعات، وتفويت الأصول قبل أن تدق ساعة الصفر التي يجف معها هذا المنبع الغزير.
لاشكّ بأن كل منا يُدرك - إلى حدّ ما - ما يترتب على الحروب التي يشنّها البشر مهما كانت دافعها وتبريراتها، من جور، ومن مظالم، ومن دمار في البُنى التحتية والاقتصادية ، وكذلك من فساد أخلاقي وانتهاك لجميع المعاني الإنسانية. كما أن كل منّا يعرف جيداً ما تسببه الحروب من كوارث وويلات.
وانطلاقاً من التجربة الشخصية التي أمرّ بها حالياً في وطني فقد رأيت بأن عليّ أن أبين للقارىء ما نمرّ به في هذه الحرب الجائرة على الرغم من أنني لو أردت أن أعدّد البعض فقط من الآثار الفتاكة، والويلات التي تنجم عن الحروب، خاصة في هذا العصر الذي شهد - مع كل أسف - تطوراً كبيراً في آلة وترسانة الحرب وفي أسلحتها المدمرة، لكان علي أن أكتب صفحات وصفحات، سوف تضع القارىء في النهاية في متاهة ولابدّ أن تجعله ينظر إلى عالمنا نظرة تشاؤمية ويفقد الأمل في كل ما هو إنساني، ويعتبر بأننا بعد أن وصلنا إلى هذا القدر من الحضارة والتطوّر، قد عدنا إلى عصر شريعة الغاب، وأن يعتبر بأن المفاهيم الإنسانية قد تغيّرت بحيث أصبحت الحياة للأقوى وليس للأصلح.
(أنا أفكر إذا أنا موجود)...مقولة نحَتها أبوالفلسفة الحديثة (رينيه ديكارت) فصارت حجر الزاوية في تعريف جديد للإنسان بوصفه كائنا مفكرا، وقد أكّد على ذلك (مالك بن نبي) حين صنّف عالم الأفكار على أنه أعلى درجات الرقي في سلّم الإنسانية الحقّة بعد أن تجاوزت عالمي الأشياء والأشخاص. ومعلوم أن الحيوانات المنوية والبويضات لم تكن يوما وعاء ناقلا للفكر؛ فالوراثة بريئة من تهمة صناعة الفكر كبراءة يوسف من بهتان امرأة العزيز، ولكن العقل وحده هو من يصنع من دقيق الحياة ومائها خبزه الفكري ووقوده الإدراكي الذي يقوده إلى النجاة إن كان صحيحا وإيجابيا أو إلى الهاوية إن كان سلبيا وشيطانيا.
وإذا كانت المعرفة والثقافة هي نتاج النقل، والعقل، والتجوال في ميادين الحياة المتشعِّبة عبر عائلة الحواسّ الخماسية(البصر-السمع-التذوق-الشم-اللمس)؛ فإن الأفكار هي المنتوج النهائي والمولود الذهني الذي يكشف المجهول ويشرح الغامض ويوضح المُبهم ويحلّ المعضل، أما المبادئ فهي تلك الأفكار التي صمدت للنقد؛ فلاقت إجماعا إنسانيا على مَرّ العصور، ووافقت الفطرة، وعززتها الرسالات السماوية، وأكدتها التجارب الحياتية.
الحمد لله الذي أمر بالجهاد في سبيله، ووعد عليه الأجر العظيم والنصر المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في كتابه الكريم (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم47).
وبعد؛ فإن الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات ومن أعظم الطاعات، بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون وتنافس فيه المتنافسون بعد الفرائض، وما ذاك إلا لما يترتب عليه من نصر المؤمنين و إعلاء كلمة الدين، وقمع الكافرين والمنافقين، وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج العباد من الظلمات إلى النور، ونشر محاسن الإسلام وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين، وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين. وقال تعالى في فضل المجاهدين (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )(التوبة111). ففي هذه الآية الكريمة الترغيب العظيم في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وبيان أن المؤمن قد باع نفسه وماله لله عز وجل، وأنه سبحانه قد تقبل هذا البيع وجعل ثمنه لأهله الجنة؛ أنهم يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون، ثم ذكر سبحانه أنه وعدهم بذلك في أشرف كتبه وأعظمها: التوراة، والإنجيل، والقرآن، ثم بين سبحانه أنه لا أحد أوفى بعهده من الله؛ ليطمئن المؤمنون إلى وعد ربهم ويبذلوا السلعة التي اشتراها منهم، وهي نفوسهم وأموالهم في سبيله سبحانه عن (إخلاص) وصدق، وطيب نفس، حتى يستوفوا أجرهم كاملا في الدنيا و الآخرة، ثم يأمر سبحانه المؤمنين أن يستبشروا بهذا البيع لما فيه من الفوز العظيم، والعاقبة الحميدة، والنصر للحق والتأييد لأهله، وجهاد الكفار والمنافقين وإذلالهم ونصرأوليائه عليهم، وإفساح الطريق لانتشار الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة. من هنا انطلق المسلمون على مرالأزمان ينافحون ويذودون عن حياض هذا الدين العظيم، مسترخصين فيه كل غال ونفيس، ومن هنا أيضا وجدنا الأشعار والخطب الرنانة التى تمجد أهل الجهاد أبطال الفداء، وتسجل لنا عبر الأزمان صور البطولات والملاحم التى خاضها الأبطال لتطهير البلاد وأقدس الأماكن من أيدى الحملات الصليبية المزيفة، التى جاءت تحمل شعارات براقة وهى تخفي فى طياتها العفن وأثرة النفس وحب الدنيا وملذاتها.
الصفحة 49 من 432