ما فتئنا وخلال عقود قضيناها في الغرب، في كفاح دؤوب، لا يفتر، من أجل تصحيح ولو قسم ضيق من الرأي العام الغربي من حولِنا، فيما يتعلق بالإسلام، والقضية الفلسطينية، باِعتبارِهما أسّ معركتنا الإعلامية في الغرب.
معركتنا، معركة الجاليات العربية والمسلمة في الغرب، بالفكر، بالثقافة، بالبحث، بالدراسات الأكاديمية، بالفن، بالأدب، في الإعلام –كلما اِستطعنا-، في المحافل الثقافية الخاصة والعامة، في المدارس، في الجامعات، كلّنا .. صغيرنا وكبيرنا، المُتدين وغير المُتدين، المُلتزم وغير المُلتزم، العربي وغير العربي، والمسلم وغير المسلم، وأكثر من ذلك .. وحَتَّى بعض السّياسيّين والديبلوماسيين العرب،ساهموا ويساهمون بطريقة أم بأخرى، في معركة صناعة الرأي هذه في الغرب.
معركة ثقافية فكرية دائبة لا تكل ولا تمل، بدءاً بجولات كبرى قادها رجال من طراز إدوارد سعيد، ومحمد أركون، وطارق رمضان، واِنتهاءاً ..بأي شاب صغير يُحاور أصحابه هو يلعب كرة القدم معهم. معركة تدورعلى كلّ الأصعدة والجبهات والمستويات.
قبل شهرين، تعرضت لحادث بسيط في المنزل أدى إلى كسر في القدم. وبما أنني أعمل في جامعة الشويخ وأكبر مستشفى عظام في دولة الكويت وهو مستشفى الرازي الواقع أيضا في الشويخ، فمن الطبيعي أن المستشفى الذي سأفكر فيه تلقائيا هو مستشفى الرازي لقربه من مكان عملي في حال أردت مراجعة العيادات الخارجية أو عيادة الطوارئ. ذهبت الى قسم الحوادث، وتم إجراء أشعة ومن ثم وُضع "الجبس" وأُعطيت مراجعة بعد أسبوع في عيادة القدم، طبعا هذا بعد تدخل إحدى المعارف لتقريب الموعد، وإلا كان الموعد أبعد.
مكتوبا بالطباشير على لوح الصف وقتَ الاختبارات، أتذكّر جيدا الحديث الشريف "مَن غشّنا فليس منا". كان الغش وصمة عار، ونشاطا مرتبطا بأولئك الطلبة "الكسالى"، المتمردين، الصعاليك. كان نشاطا تمارسه شريحة هامشية لا يُتوقّع لها مستقبل باهر، بل لا يُتوقع لها مستقبل أصلا. وكان مجترحوه -بوسائلهم المتواضعة مثل "البراشيم"- حريصين على إبقائه ضمن دوائرهم الخاصة درءًا للفضيحة.
يُكرّر الحديث الشريف ذاته على الطلبة اليوم، ولا يثير رهبة كبيرة فيهم، واأسفاه! بل صار العكس صحيحا، مَن لا يغش، "فليس منا"؛ مَن لا يغش شخص غريب وجبان. نعم، صار الغش بطولة ومَفخرة، وسببا للاندماج في مجتمع المراهقين، ووسيلة مريئة للتفوق.
لهذا نجد خطابا حِجاجيا ينتشر بين الطلبة بل وأهليهم أحيانا؛ "هذه مساعدة"، "هذا تعاون"، "الكل يفعل هذا". ولوي عنق الحقائق بهذه الطريقة حيلة قديمة لإسكات الضمير. كحيلةِ المرابين الذي نقل القرآن الكريم تسويغاتهم {... إنّما البيع مثل الربا ...}، وكحيلة النمرود حين جابهه إبراهيم -عليه السلام- بحقيقة أن الله يحيي ويميت، فأُسقط في يده، وجاء بمواربة عقلية سمجة.
حاشا وكلا! كيف يأتي موسم "الكريسمس" دون أن تدور المعركة الفكرية السنوية الطاحنة؛ نحتفل أم لا نحتفل؟ نضع شجرة كريسمس أم لا؟ ومتابعة هذا السجال ممتعة، فباستعراض حجج كل فريق يمكننا أن نفهم شيئا عن عقلية الإنسان العربي اليوم؛ كيف يفكّر، وكيف يبرّر، وكيف يقرّر.
نعلم أن تلك الشجرة رمز للاحتفال بميلاد يسوع عليه السلام، ابن الرب وفق المعتقد المسيحي. ونعلم جيدا أن هذه الفكرة تُصادم أصلا في عقيدتنا. لكننا كذلك نعلم -وبنَصّ القرآن الكريم- أن أقرب الناس مودة لنا هم المسيحيون، هم قوم نتعامل معهم بالبِر والقسط. ويبدو أن العقلية العربية تفترض أن برّنا بالمسيحين يعني حكما مُبرما بأن نوافقهم في كل أمرهم لئلا نجرح حبل المودة. وأظن أن هذا تنطّع مزعج سيتعجب منه المسيحيون أنفسهم. أتذكر حوارا جمعني بفتاة بريطانية وقد توثقت علاقتنا، فسألتني قبيل احتفالاتهم بالكريسمس بمنتهى التهذيب: "هل تحتفلون بالكريسمس؟"، فأخبرتها بأننا لا نفعل. وظل حبل الود، ولم تظن بي قلة التسامح. وأنا بدوري لا أتوقع من معارفي غير المسلمين الاحتفال معي بقدوم رمضان أو بالعيدين. بأي حق أطلب مثلا من مسيحي يرى أن الذبيح هو إسحاق، أن يحتفل معي بعيد نستذكر فيه أن الذبيح هو إسماعيل؟ مما تعلمت في الحياة أن المداراة الزائدة دليل على علاقة سطحية لم تُختبر، وأن النقاشات غير المريحة هي التي توثق علاقتنا بالآخرين. العلاقة الصادقة والمتكافئة هي التي نختلف فيها في الآراء، ثم نخرج بعد كل هذا وليس في قلوبنا شيء.
"هو مو مثلي، أنا رجل وهو شاذ"، و"هي مو مثلية، أنا امرأة وهي شاذة"، هكذا يقول إعلان شجاع ينتشر في شوارع الكويت هذه الأيام. "مثلية"، يا لهذه الكلمة الرقيقة في مبناها ومعناها! هذه كلمة تطبيعية لها إحالات تدل على التشابه، وتُفضي -لا شعوريا- إلى الاندماج والتقبل. متى وكيف انسلّت هذه الكلمة بيننا واندست في قاموسنا؟ ومتى وكيف صار شيء مستمد من الطبيعة مثل قوس قزح، يُستخدم رمزا لممارسة أبعد ما تكون عن الطبيعة والفطرة؟!
الدنيا مثيرة براقة وتفتن البشر بزينتها من مال وبنين وجمال وسلطة وشهرة وقوة وبيوت وسيارات وأراضي وغيرها، وشغلت الدنيا بال الكثير ليل نهار وأقلقت الكثير وأدخلتهم في صراعات ونزاعات من أجل الفوز بها.
ولذلك يثور تساؤل هام: هل يمكن لإنسان أن يغلب الدنيا؟
بالطبع الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلوات والسلام والبركات خارج هذا السؤال لأنهم فئة منتقاة من الله سبحانه وتعالى تحظى بعناية خاصة من القادر القدير خالق هذه الدنيا.
واختلف الناس فيما بينهم في الإجابة على هذا السؤال الهام والخطير:
فقال فريق بأن الدنيا قوية تغلب الناس وتستعصي على أن يغلبها أحد من البشر ودفع هذا الفريق بحقيقة مهمة وهي أن الإنسان بفطرته في الحرص على الحياة الدنيا وبشهواته الداخلية التي يصعب عليه أن يتخلص منها جميعا يسعى ويلهث طوال عمره وراء الدنيا ووراء أمانيه الدنيوية التي لا تنتهي ولا تتوقف عند حد وبذلك يموت الإنسان ولم يحقق أماني وبذلك تصبح الدنيا قد هزمته.
الصفحة 6 من 432