هديرُ العواصف تصمُ الآذان، وأنفاسه تتفاوت ما بين صوتِ الزفير وأنات الشهيق، وذرات حبات الرمال تلسعُ خديه كأنها خرزات أبرٍ قاتلة، أيقنت نفسه أنه في بدايةِ هلاكٍ محتوم، فبدأت ذكرياته في إعادةِ المشاهد التي خُزنت كملفاتٍ مرئيةٍ عاليةُ الوضوح والدقة: كابتسامة زوجته، ومشاهد أطفالهِ وهم يلعبون في رمال الشُطْآن الذهبية... صُوَرٌ تترامى أمامه كأنه شُعاعٌ يُضيء ظلام الصحراء البهيم... بدأت علامات الانهيار تهاجمُ جسدهُ النحيل؛ فقررَ عندئذ التوقف عن المسيرِ ليُحافظَ على قواه البدنية فجلس على تلكم الكثبان المتحركة الذهبية وعيناهُ تذرفان بالدمعِ حينًا، وتستطلع الأفق أحايين أخر، وفي لحظةٍ سريعة رأت عيناه نارًا تشتعلُ على مقربةٍ منه أغمض عينيه، ثم فتحها؛ ليتأكد من أن صورة النار حقيقية: "إنها حقيقية إنها حقيقية" مُنْتشيًا وصارخًا بها... فنهضَ واقفًا وتأثرَ جسدهُ المنهك بنشوةِ فرحٍ عارمة وبدأ جسده يستجمعُ قواه للسير مرة أخرى، فانطلق وكله أمل أن يلقى بشرًا حول تلكم النار (غير المألوفة في هذه الأماكن الغائرة في بُطونِ الصحراء القاحلة وغير المأهولة بمساكنٍ بشرية)، وبينما هو يسيرُ إذ بالنار تختفي تارة وتظهرُ تارةً بدأ عقله الباطني يُرسلُ إشاراتٍ تحملُ في طياتها تساؤلات شكوكيةٍ؛ فقال في نفسه -محاولًا وقف تلكم الإشارات الظانة بالسوء التي استحكمت ووقرت في نفسه-: "لعلها أوهام لعلها أوهام"، فسار مرة أخرى صوبَ تلكم النار الغريبة ووصلَ إلى البقعة التي تشتعل من فوقها هذه النار غريبة الأطوار فوجد ثلاثة أجسامٍ قريبة كل القرب للتكوين البيولوجي البشري رؤوسهم مُطأطأة للأسفل كأنهم في لحظاتٍ روحانيةٍ خاصة دقق الرجلُ بصرهُ متفحصًا وجوههم؛ فإذ به يرى أشكال وجوهٍ متغايرة الحواس فيها عن الأوجه البشرية عينٌ في أعلى الوجه وعين في أسفلها وفي كل خدٍ غضروفٌ يشبه إلى حدٍ بعيدٍ الأذن وفي منتصفِ الوجهِ فتحة كأنها تحملُ أثارَ أنفٍ كانَ موجودًا فأيقنَ حينئذٍ أنه في حضرةِ كائناتٍ غيرُ أنسية الخلقة والخلقية فدفع إحدى قدميه إلى الوراءِ للفرار بِبُطءٍ، لكن حركة أحدهم جعلته يعدل عن قرار الفرار هذا رأى ما يُشبه بيدٍ تخرجُ من رداء أحدِ الثلاثة تُومىءُ نحوه بأن يقتربَ أكثر؛ فدنا حتى قعد على مقربةٍ منهم ولبشاعة مناظرهم الخارجية جعلت نبضاتُ قلبه تزدد بشكلٍ يُتعب الأنفاس، سيطرَ السكونُ المميت الأجواء لكنه لم يدم طويلًا، أخرجَ أحدُ الثلاثةِ عظمًا مُحْترقًا وكيسًا مُمتَلئًا، فوضع العظم في فيه السفلي وأخرجَ من الكيسِ كومةً تُشبه إلى حدٍ ما التبغ... أدخل الكومة إلى فتحةٍ أعلى العظمِ ونفث حتى انبعثَ دخانٌ كثيف، الرجلُ من هولِ ما يرى ارتفعت حاجباه إلى الأعلى حتى استرعى انتباه صاحب العظم الذي بدأ يُتمتمُ حتى بدأ يخرجُ صوتًا عميقًا يكتمُ الأنفاس من غلظته ـــ أهلًا بكَ أيها الضائعُ عن سبيله ـ فأجابه الرجل بصوتٍ هامس: أهلًا بكَ أيضًا، ثم أردفَ صاحب العظم قائلًا: أضيِّعْتَ طريقك؟ لم يستطعْ الرجل النطق فأومأ رأسه بالإيجاب، ثم صمتَ صاحب العظم هنيةٍ ثم قال: لا تخف. هدأت أنفاس الرجلُ فورَ سماعه كلمة لا تخف، فعادَ السكونُ المميتُ مرةً أخرى للجلسة وبعد بُرْهَةٍ اتجهت رؤوس الثلاثة نحو الأسفل وبدأت النار تنحسر عن مجال الرؤية بشكلٍ تدريجي حتى اختفت أوجه هؤلاء الثلاثة بشكلٍ فُجَائيٍّ! فسقطت على الأرض وأصبحت كالدُّهْنِ صرخَ الرجل بشكلٍ متسرع ومفزع وبدأ ينزعُ شعرَ رأسه ويلوح بكلتا يديه للهواء قائلًا: أنقذوني أنجدوني و سقطَ من على سريره واستفاقَ من هذا الكابوس!.
انتهى
جلس الطفل إخناتون عند قدمي أبيه الملك أمنحتب الثالث الجالس علي عرشه بقصر الحُكم في طيبة .. إنه عهد الامبراطورية المصرية في عز مجدها وقمة نضوجها وعنفوان سطوتها واتساع رقعتها، من نهر الفرات شرقاً حتي أجزاء من شرق ليبيا غرباً، ومن قبرص شمالاً حتي الشلال الخامس جنوباً بالسودان، وذلك قبل الميلاد بأربعة عشر قرناً كاملاً .. كانت هيئة أمنحتب الثالث تُـظهر كونه ملكاً مهيباً ذا شأن عظيم .. جسد ممتلئ وبطن بارز وعنق غليظ، حيث حياة الرفاهية والبذخ في أقصي حدودها .. رُصت أمامه علي طاولة منبسطة شتي أنواع الفاكهة تفوح بأزكى الروائح وتشع ألواناً تُطعم العيون قبل الأفواه .. علي رأسه تاج ذهبي منمق يتدلى منه رأس حية ملكية زادت من رهبة هيئته وجبروت حضرته .. تُجاور طاولة الفاكهة واحدة أخري أصغر منها مستقر عليها الصولجان والمذبة رمزا الحكم وشعارا شطري مصر القبلي والبحري .. يرتدي الملك ملابس كتانية فاخرة بالغة النعومة .. له ملامح وسيمة رصينة أبرز ما فيها أنفه المنحوت وعينيه اللوزيتين .. تنتشر الأساور الذهبية المرصعة بشتي الأحجار الكريمة أعلي عضديه ومعصميه وكاحليه .. بالإضافة لصندل مجدول من لفائف ذهبية مستقر في قدميه المكتنزتين .. القصر كله كان يتلألأ من الداخل بنور أصفر تحت تأثير المشاعل المنتشرة في أرجائه، وبدا لو ان كل ما فيه قد نُحت وطلي من الذهب الخالص .. أما اخناتون فكان رشيق الجسد حليق الرأس تماماً مكحل العينين، لا يتخطى عمره الثمانية أعوام .. بسيط في ملبسه المكون من إزار كتاني يغطي نصفه السفلي وصندل خفيف .. كان الطفل وقتها لا يسمي إخناتون، بل كان بنفس اسم أبيه .. أمنحتب .. الأمير أمنحتب الرابع .. وكان هو ولي العهد، وبكر أبناء أبيه .. كانت قاعة العرش خاوية إلا من الملك وابنه .. حيث أخلاها أمنحتب الثالث ليقضي بعض الوقت مع ابنه المدلل.
أمسك إخناتون بقدم أبيه في لطف وسأله باهتمام وهو يحدق فيه لأعلي :
- أبي .. هل أنت حقا .. إله ؟!
بهت الملك للحظات وهو ينظر لوجه ابنه، وقد اعتلت قسماته بعض الغضب، غير انه تبدّل بسرعة وابتسم لصغيره بهدوء ثم قال له:
كان هناك في سالف الأزمان أميرة جميلة جدًّا تُدعى فلوريت (أي: الزهرة الصغيرة) كانت تُقيم في قصر رخامي أبيض يقع فوق قمة هضبة مرتفعة.
كانت تلك الأميرة تحب الزهور إلى حدٍّ كبير، وبذلك كان يُحيط بكل جهة من سياج القصر حديقة مُزدانة بجميع أنواع النباتات الجميلة تنحدر إلى أسفل الهضبة،بحيث كانت تلك الهضبة أشبه بباقة من الزهور ترتفع في منتصف المنطقة وتتصاعد منها ويتنشر منها العبير في الهواء عبر أميال. كانت حديقة متألّقة مُشرقة تحت أشعة الشمس،يُسمع فيها لحن تغريد آلاف الطيور وهمهمة ملايين من النحل.
كانهنا وهناك في قسم من الحديقة أكواخ صغيرة، حيث تستلقي الاميرة وتحلم... كما كان هناك الكثير من التماثيل الرخامية بين الأشجار والعديد من نوافير المياه، وكل ما يمكن أن يُضفي على تلك الحديقة الجمال والفخامة، وبذلك لم يكن هناك في كل المنطقة أجمل من حديقة الأميرة فلوريت...
برعم الورد الصغير Little Button Rose
للكاتبة لويزا ماي ألكوت
ترجمة أمل الرفاعي
دخلت طفلة صغيرة تُدعى روزا موند إلى غرفة واسعة كانت سيدات ثلاث جالسات فيها أمام طاولة الحياكة. إحدى أولئك السيدات كانت نحيلة جداً بينما كانت السيدة الأخرى مُكتنزة جداً، أمّا أصغرهن سناً فكانت جميلة جداً.
قالت الطفلة:
"من فضلكن أنا...".
لكن السيدة الأكبر سناً لم تكن قد تركت لها المجال لمتابعة كلامها. خلعت نظارتها ووضعتها جانباً ونظرت إليها نظرة فاحصة، وكانت السيدة المُكتنزة قد وضعت ما تحيكه جانباً، وقالت السيدة الأجمل والأصغر سناً:
"لا بد أنك الصغيرة روزا موند!".
أجابت الطفلة بهدوءِ الشخص الواثق من نفسه:
"نعم أنا هي. أحمل لكُنَّ رسالة من العم بينوليب، وسوف يجلب السائق الآن أمتعتي".
يكاد المقود يفرُّ من يديّ الغريقتين بالعرق. يرنّ هاتفي في الوقت غير المناسب أبدا. سعاد تتصل بي بإلحاح، يبدو أنها وصلت قبلي كالعادة، لكن لماذا تلح؟ أنسيتْ أنّي أحب أن أصل في الوقت المحدد تماما حتى أجنّب نفسي ممارسة قلق السؤال في فضاء الانتظار؟
يتوقف عويل اتصالها فجأة، ثم يأتي صوت رسالة هاتفية متزامنا مع وقوفي في حضرة الإشارة الحمراء:
"السلام عليكم. أنا هتاف جارة سعاد. لقد توفيت خالة سعاد عصر اليوم، وهي في حالة سيئة جدا. طلبت مني أن اتصل بك وأطلعك على الأمر كي تنوبي عنها."
يا للهول! يا للمصيبة! نعم، موت خالتها مصيبة طبعا، لكن أعني مصيبتي أنا! كيف تتركني أجابه الموقف وحدي؟ ... يا لي من جاحدة وعديمة الإحساس، كيف أقول هذا؟
ماذا أفعل؟ هل أعتذر عن التغيب عن اللقاء أيضا؟ حجة بالغة جدا للتهرب، لقد توفيت خالة زميلتي، وذهابي لمواساتها أولى من ذهابي للحلول محلها. اتصل برقم سعاد لعل جارتها ترد، لكن دون جدوى. أرسل رسالة هاتفية أطلب فيها رقم ضيفتنا "همسة كشميري" لأعتذر لها، دون جدوى أيضا. يبدو أنه لا مفر! سأذهب لبعض الوقت من باب المجاملة، وأشرح لهمسة ما حدث، ندردش قليلا، وأغادر. لن أدخل في أية نقاشات. أمنّى النفس أن أذهب ولا أجد همسة، قد تكون هتاف أخبرتها بالأمر مثلا.
كنت سأحضر اللقاء صحافيةً لتوثيق ما سيجري ونشره لاحقا على حلقات في الصحيفة، لا طرفًا في النقاش. صحافية زاهدة في المعلومات؟ صحافية خائفة من الاقتحام؟ اللهم نعم! فمن سأجلس معها خطرة جدا، ترفع أسئلة تشكيكية، وتخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بنديّة، وتغلف كل هذا بغلاف من الشعر الرقيق. هل يعقل أن أخاف من فتاة تصغرني بأكثر من عشر سنوات؟ سبق وأجريت لقاءا مع أحد أساطين تجارة السلاح ولم أخف كل هذا الخوف. ألأني خائفة على روحي لا على حياتي هذه المرة؟ خائفة من عدوى المجاورة؛ العدوى الفكرية!
أقرأ في سري دعاء الاستخارة، فتهدأ نفسي قليلا. أمضي في عزمي على لقائها من باب الذوق والحفاظ على الوعد.
كانت القنابل تُدّوي في جميع أرجاء تلك القرية الصغيرة، وكانت القذائف تتساقط في كل ركن فيها. جلست أم عماد في تلك الغرفة المُتداعية التي تخلو تقريباً من الأثاث، والتي تقع في ساحة غابة جرداء تكاد تخلو تماماً حتى من الأشجار ومن العشب. غابة أصبحت جرداء بعد أن أحرقت نيران القذائف كل ما كان فيها من أشجار ومن نباتات، وبعد أن قام سكان القرية بقطع ما تبقى منها كي يستخدموها في التدفئة لعلهم يحصلون على ما يُساعدهم على مواجهة العيش في العراء في ذلك الشتاء القارس البرودة.
كان أطفالها الثلاثة يُحيطون بها، ابنتاها إلى جانبها، أما ابنها عماد فكان رابضاً بالقرب من قدميها أشبه بكلب حراسة، وفي حجرها طفلها الصغير ذلك المولود الجديد الذي لم يتجاوز بعد الشهرين...
كان الطفل يبكي بكاءً مريراً، بكاء أشبه بالعويل يتردّد صداه مع تردّد صدى الصوت الصامّ الذي يلي سقوط كل قذيفة.
كان الجميع يرتعشون، أما أم عماد فكانت كلما سمعت دويّ سقوط إحدى القذائف تضمّ أولادها بأكثر من قوّة وهي تُردّد هذه العبارة التي هي أشبه بمن يُغني في الظلام طرداً للخوف: "لا بأس.. لا بأس... سوف يتوقف كل شيء بعد قليل!"
أما رجل البيت ودعامته فكان في ميدان القتال.
وكانت القذائف قد توقفت أخيراً. ساد الصمت والسكون لبعض الوقت، ولم يعد يشقّ ذلك السكون سوى صوت أنين خافت كان يصل بشكل مُتقطع من خارج الغرفة.
الفراشة التي لم تتمكن من الطيران
The butterfly who stamped
تأليف: روديار كبلنغ.
ترجمة: أمل الرفاعي.
كان رجل قد عثر على شرنقة فراشة واحتفظ بها إلى أن بدأت تلك الشرنقة ذات يوم تنفتح من أحد أطرافها. جلس الرجل أمامها لكي يرقب تلك الفراشة التي كانت تُحاول بكل جهد إخراج جذعها من ذلك الثقب الصغير، لكنها كانت قد استمرت في ذلك لساعات إلى أن توقفت عن المحاولة لأنها لم تعد على ما يبدو قادرة على بذل المزيد من الجهد للخروج من الشرنقة.
كان ذلك الرجل قد أراد أن يساعد الفراشة على الخروج من الشرنقة، وبذلك أحضر زوجاً من المقصات وقصّ الجزء المتبقي من الشرنقة.
وكانت الفراشة قد خرجت حينئذ من الشرنقة بسهولة، ولكن كان لها جذع مُنتفخ وأجنحة ضعيفة.
استمر الرجل في مراقبة الفراشة لأيام، وكان يتوقع أن تتسع أجنحتها في أي لحظة وتنتشر لكي تحمل الجذع الذي سوف ينكمش في الوقت المناسب.
الصفحة 4 من 43