"طق، طق." ويبتلع الثقب الأزرق سبعة دقائق ونصف من وقته عن طيب خاطر. ينفرج الثقب أكثر، يتمدّد مثل مجرّة شرهة، يقف حائلا بينه وبين الرؤية، "طااااااااط"، بوقٌ شرس، يلمحُ الفتى السائقَ الذي كاد أن يصدم به وهو يهز قبضته بغضب.
يشيح الفتى بوجهه عن الثقب قليلا، ينتابه عتب خفيف متبوع بشوق مَرَضِيّ للثقب الأزرق. يعود إليه، لكن هذه المرة سيكون أكثر حذرا، عين على الطريق وعين على صديقه الأزرق. يلمس الثقب الأثيري بحنان كما لو كان يلمس غيمة خُرافية. شعور النشوة يعتريه، شعور يخفف عنه وعثاء الطريق المزدحمة والحر الممزوج بعوادم السيارات الذي يشعر أنه يتسرب إليه رغم إحكام منافذ سيارته الحديثة. يخرّ وقته المهدور في الثقب الأزرق، ويشعر الفتى بأنه مدين للثقب الأزرق. فماذا كل سيحدث لكل هذه الدقائق لولا أن تصدى الثقب الأزرق الجواد لها.
- وجدنا بضعة أطنان متراكمة بعد آخر اجتماع، فعدلناها وجهزناها وننتظر نقلها من مخازننا.
نقلها المترجم الروسي عن صاحبه. ثم تمطى الأمريكي وابتسم قائلا:
- استلمنا حصتنا، وشحنتنا الكاملة ستصل بحراً منتصف ليل آخر الأسبوع.
وزع الصيني صورا للحاضرين ثم قال مترجمه:
- جديدنا ترونه بين أيديكم، وسيعجبكم ويهيمن على السوق.
- ها هي... ستة ستة... اثنا عـشـر... وخمسة خمسة... اثنان وعـشرون... وستة... ثمانية وعشرون... واثنان... ثلاثون... إذن أكسب ستة.
التقت أعين أصدقائي الثلاثة الملتفين حول طاولة اللعب لوجهي المبتسم وأنا أضع قطعة الدومينو الفائزة علي الطاولة، ثم رشفت بعض الشاي ملتفتاً إلي من حولي وتساءلت ببراءة وعفوية:
- لماذا يسمون هذا النوع من اللعب دومينو أمريكاني وأنا لم أر أمريكياً يلعب هـذه الطريقة من قبل؟!
نظر لي صديقي الجالس عن يميني وقال من فوره متهكما بسرعة بديهة:
- هذا الموضوع له تفسيران لا ثالث لهما... أن تكون هذه التسمية إجبارية علي ألعـابنا، وإما نحن من أطلقنا عليها أمريكاني لأن بها بعض الذكاء.
منذ انصرافه من عند صديقه شعـر بأنه ليس علي ما يرام، وحين عاد إلي بيته أيقـن أنه ليس طبيعـياً، وعندما دخل الحمام ونظر للمرآة تأكد أنه ليس وحيداً... تمعـن النظر لصورته علي السطح المنعكس فتراءت له خيالات تطوف خلفه بعشوائية... أطياف سوداء تتحرك كقماش شفاف يلاعـبه الهواء... لم يصدق ما يراه واعتبره هلاوس إرهاق أو انعكاسات ضوئية تأتي من الشارع خلال شباك الحمام... إلتفت بغته للوراء ليري الأطياف قد تشكلت بهيئة ضبابية لرجل أسود ذو ملامح بشعة، فصرخ بجنون لا بسبب ما هو ماثل أمامه ولكن لأن الكهرباء قد قطعت وأصبح في الظلام مع ما رآه... سارع بفتح الباب ولكن يد قوية خشنة أطبقت علي رسغه... إنتشل يده مرتداً للوراء وواصل الصراخ بجنون، ثم شعر بأن هذا الكائن قد أمسكه بعنف من كتفيه ونظر في وجهه مباشرة، فرآي جمرتين متوهجتين تقتربان منه في سرعة ثم سقـط فيهما ووقع بقـسوة علي أرض متوهـجة، هي أرض جهنم علي ما يظن.
- بيت جميل الصنع... بديع التـنسيق... مؤقت العنفوان... تجتمع به عناصر الضعف والقوة في آن واحد... يقف شامخاً وسط طبيعة خلابة... محدودة... زمنية... بداخل البيت خدم كثيرون، يعملون علي مدار الساعة دون توقف... وحتي آخر نفس... يعتمد وجود وبقاء هذا البيت قائما في مكانه علي سببين... الأول وجود الكهرباء في أرجائه وأجهزته، والثاني بقاء قاطنه... أو زائره بالمعني الصحيح... والذي جاء من أعماق المحيط، ولكنه لا يتذكر مؤقتاً تفاصيل رحلته التي جاءت به إلي هذا البيت... ويكون هذا الزائر علي نفس شاكلة بيته... ومن شكل البيت وتحديداً واجهته نعرف صفات زائره بالفراسة... بيت بسيط... بيت معقد... بيت كئيب... بيت مهيب... بيت صغير... أو بيت كبير... أحياناً نراه قصراً... أو كوخاً... كل ذلك متوقف علي كينونة الزائر واختياراته... ورغم أن البيت متوقف بأكمله علي وجود الزائر به، لكنه لا يطيق وجوده بالداخل طوال الوقت... كما أن الزائر يضيق بحجم البيت المحدود واختلاف مادته، فيتركه لبعض الوقت ويتـنزه ذاهباً للمحيط... ولكن لا يرحل بعيداً... فقط في حدود شاطئه... حيث ينتعش متنفساً الصعداء ويري به بعض الرفاق وربما الأعداء، وأحياناً يتسلم رسائل قد يدرك مغزاها وقد لا يتذكرها علي الإطلاق...
تنحنح المذيع اللامع بعد أن هدأ تصفيق الجمهور من حوله، وبدأ في الكلام موجها حديثه على الهواء مباشرة إلى المشاهدين من خلال الكاميرا القابعة أمامه قائلا بحماس:
- مساء الخير مشاهدينا، وكل عام وأنتم بخير... نقدم لكم اليوم أولى حلقاتنا من برنامجكم التليفزيوني الجديد (من الفائز؟).
سكن للحظات ثم غير من وضعية جلوسه بحِرَفية مصوبا نظره لكاميرا أخرى وقال مكملا:
- برنامج (من الفائز؟) يعتبر مسابقة ثقافية في المقام الأول... فهو يختبر معلوماتكم بمعنى الكلمة... لا مجال هنا للحظ بتاتا... أما الجوائز فقيمة جدا... ونحن نعي ما نقول... المهم الإجابة الصحيحة على السؤال المطروح على المتسابق أو المتسابقة... لا توجد اختيارات من متعدد... أو أي وسيلة مساعدة بخلاف عقولكم وما بها من معلومات... ما نريده هو الإجابة السليمة والدقيقة على سؤال واحد فقط... إذا لم يستطع المتسابق الإجابة عليه أو أحس بأنه قد يجيب إجابة خاطئة؛ فيحق له أن يطلب سؤالا آخر... ولكن... في تلك الحالة ستهبط الجائزة إلى النصف... وإذا لازمه عدم التوفيق مجددا يطلب السؤال التالي... فتهبط الجائزة إلى الربع... وهكذا... ولكن إذا تلفظ بالإجابة الخاطئة يخرج فورا من المسابقة.
داخل أحد المعابد العتيقة المعبقة بالبخـور، جلس أحد الأشخاص بتضرع أمام واحد من الـتمـاثـيل المقدسة المنتشرة بأرجاء المكان، وحدثه شاكياً في مرارة بصوت باكٍ متهدج:
- ولدت فقيراً... كسيحاً... قبيحاً... اضطررت إلي السرقة لأطعم نفسي، وإلا كـنت هــلكـت جوعاً منذ زمن... لا أجد سوn هذا السبيل لأظل علي هامش تلك الحياة المقـفرة... حاولت أن أفعل الخير ولكن ليس بيدي أي شيء... لا أتعمد إيذاء أحد... حتي في سرقاتي أتعمد أن أحصل علي فائض من أسرقه، وبأنه لن يتأذى بفعلتي .. لا أجد من يعطني ولو حتي كسرة خبز أو شربة ماء... الكل يهابني لمظهري المنفر... الكـل يعـتـقـد أني روح شريرة تكفـّـر عن نفسها... حتي نظرات العطف والشفقة لا أحظي بها... أبسـط حـقـوقي كإنسان لم أحصل ولو علي جزء يسير منها.
الصفحة 2 من 43