هل هناك في الكون عدالة تعادل عدالة الله تعالى؟
أليس الله تعالى من نشر العدالة بين البشر؟
أليس من أسمائه الحسنى "الكريم العادل الحق؟"
أليس الله تعالى من يُحقّ الحق ويكشف عن الباطل حتى لو تكالبت جميع قوى العالم ضد المقهور والمظلوم؟
رنَّ الهاتف. أتدري ماذا حدث؟
• لا.
• خالي خالد مات.
أغلقت الخط. لم أُصَب برجفة أو رعشة، لم يقتحمني ذهول أو صدمة، لم يتملَّكْني حزن أو أسًى، حتى أنني لا أذكُر بأنَّ وقْع كلمة الموت قد وصل إلى أقل مسامةٍ من مسامات جِلدي، أو إلى أصغر مساحة من مساحات نفسي. وما هي إلا ثوانٍ حتى نسيتُ أن خبر وفاة أخي قد نقل لي، فعدتُ إلى ما كنت عليه من أمر الحياة والبقاء، وانتقلت من واجب إلى واجب، ومن تتبُّع إلى تتبع، ومن انشغال إلى انشغال. كان خبر الموت، وخلال ثوانٍ قليلة، قد غادَر ذاكرتي تمامًا كما يغادر قصف الرعد الذاكرة فور تلاشي وقعه على السمع.
رن الهاتف. كانت ابنة أخي من الأردن تبكي وتسألني إن سمعت بخبر وفاة أخي؟ اندفعت بضحكة طويلة استهجانًا لبكائها، أصيبتْ بالدهشة القوية، قالت: كيف تمكَّنتَ من الضحك وأخوك ميت؟ سؤال غريب! بعد يوم أو يومين، تحدث معي أخي قائلاً: ابنتي تتساءل: هل يمكن أن تقابل خبرَ موتنا بذات الضحكة التي قابلتَ بها موت خالد؟ قلت ما قلت، وقال أخي ما قال، وشرَحْنا لابنته ما شرحنا. وكان حقًّا علي وفاءً لكرامة أبي وأمي أن أقول ما سأقول الآن. هي رواية الوفاء والعرفان بالجميل، واكتمال اللحظات الخارجة من بؤرة النور إلى بؤرة الحقيقة، فإن كان والداي، رحمهما الله رحمة مغدقة من كرمه وجوده اللذين لا يوصفان ولا يحدان ولا يؤطران، رحمة لا تبدأ من لحظة وتنهى بلحظة، بل تمتد امتداد كرمه وجوده، قد غادرا الدنيا، وانطويا في ملكوت الحق، فلا لسان ينطق أو يذب، ولا عين ترى لتستهجن، ولا أذن لتستغرب، فإنهما تركاني على هذا الوجود، أحمل لهما في عنقي قدرة الوقوف على رأس البركان وفاءً وعِرفانًا، فلا يمكنني الصمتُ على كذب، أو تدليس، أو تشويه نالهما أو سينالهما من غريب أو قريب، وحتى من أخ كنت أستعد للسفر من أجل أن أُثاويه التراب بعد أيام من موته.
يحكى أن...
هناك في مكان ما على هذا الوجود المرصَّع بالغرائب والعجائب، بالإذهال والدهشة والانشداه، بلدٌ صغير يافع، تجتمع فيه الطفولة المدمَجة بالبراءة والنقاء والصفاء، بلد يمتدُّ من إصبع الولادة الغضَّة إلى ذراع الجنين المتحرِّر من رحم يضجُّ بالحياة والغبطة والنماء والأزهار، اسم هذا البلد غريب إلى حد الاستهجان والاستنكار، ومألوف وكأنه ولد مع ولادات الأكوان وبدايات الحيوات، تتناوشه التناقضات من كل الأطراف، ويحيط به المألوف الواضح الجلي من كل المسامات، تداخلت فيه أنفاس الجوري، وحقن بسموم العقارب والأفاعي، خضع لتفتح الياسَمين المستلِّ روعته من خرير الجدول المعقود على ذؤابة الأرض، وفقد أنفاسه أمام الأَصَلات العاصرة المراقبة لكل شهقة ونبضة من شهقاته ونبضاته.
أخي مصطفى:
تحية مصبوغة بشفق صهيل الحياة الوثابة النابضة.
تحية مشفوعة بغسق النزول نحو الاحترار والالتهاب والتوقد، نزول الضياء في هاوية قيعان البحار والمحيطات، التي تحتجز بقايا الرُّوح، وتخبئها في ظلمات تتكدس فوقها ظلمات.
تحية رائقة في حزنها المخضل بالبريق والوهج، صافية كما عيون الأيائل، نقية كما أرواح المؤمنين الراقصة بما ترى ولا نرى، تحية حذرة كما عيني الجؤذر المصفوع بوثبة لبؤة ترز عيناها شعاعًا من جوع متمكن بأحشاء أشبالها.
تحية أرجو أن تذكرها جيدًا، في الأيام القادمة.
مؤسسة الحَكَّاءُ والساكت، الحادية عشرة مساءً، اليوم (...)، من الشهر (...)، من العام الميلادي (...)، حلقة ساعة الغفلة، هواء برنامج أهل الاختصاص؛ بذلت آثير بعد مغادرتها المشفى المركزي جهدًا كبيرًا في الإعداد لهذه الحلقة لِتثبت لنفسها أنها قوية.
مرَّت أيام، أنهى آدم التحضير للحلقة الثانية، مُستضيفًا فيها بعض الحَكَّائين، اعتمد في الاختيار على أن يكونوا نخبة مُنتقاة بعناية من بين من هم من غيرِ أهل الاختصاص، من غير الإعلاميين الدارسين، من دخلوا إلى الإعلم من الأبواب الخلفية. اختار ومن معه المحاورين الجدد، أصحاب الواسطة والمعرفة: الصحفي المخضرم سعد بلحة والصحفي المُراسلة كبر لعلع والمُراسلة الفضائية زنوبة بصارة والرياضيون المعتزلين مصطفى غندورة وشهير أحمد معهم الفنانة المتحذلقة زينات الداغي والفنان المدعي آدم رامزي وبعض أهل الاختصاص المحترفون أدهم الدمرداش وساليم آديب، أما السيد فلان فكان مُمتنعًا عن ذكر اسمه الحقيقي كعادة مرتادي برامج الحوارات على شبكة المعلوماتية، اختار اسمًا مستعارًا (نيك نيم): كتاكيتو بني، وظيفته: مدير الموقع الالكتروني الشهير بهاريز شوربه كاتبها بالأحرف اللاتينية؛ مُدعي الثقافة.
بعدما خرج آخر ضيوف الغداء واقترب مغرب اليوم، أسرعت جدتي بعرجتها إلى جدي وهو مقبل من غرفته لتلبسه عباءته ليخرج إلى حلقة المساء.
رجعت لعدستها المكبرة تمررها بتأنٍّ على الصفحات. تغلق الكتاب وتحرك شفتيها ثم تعود إليه. مشهد ملفت نابض وسط السنين الهامدة.
بمحاولات الإقناع والرجاء في الأسابيع الماضية ارتضت جدتي استبدال العدسة المكبرة بنظارة مريحة جلبتها لها أمي بعد زيارتهما السريعة لعيادة عيون.
(طبعت القصة ضمن فعاليات حملة "نوري اكتمل"، إحدى حملات نادي ريماس للفتيات التابع لمبرة طريق الإيمان)
أجل، أعرف تلك القصة السخيفة المكررة! فتاة فائقة الجمال ذات وجه مستدير وخدين ورديين ترتدي الحجاب، فتزداد جمالا، ويغرّد الكون حولها، وتطير الفراشات، وتحط الطيور على كتفيها.
شيء مثالي رومانسي، ولا ينطبق عليّ أبدا! أنا، من أنا؟ أنا اللاشيء، أنا التي لا قيمة لي دون شعري، أنا كتلة القبح المتوّجة بشعر فاتن، أنا التي وُضع كل جمالي في شعري. هل تعرفون ماذا يعني الحجاب لي؟ يعني أكبر كارثة في حياتي. حسنا، الحجاب للجميلات، والنقاش انتهى!
الصفحة 7 من 43