تجمعت النيران في اجتماع غير عادي داخل أحد المعابد... تزعمته نار قدس الأقداس لطول عمرها، واحترام الجميع لها، ناراً وبشرا... كان مشهداً مبهراً بكل المقاييس... كتل من النيران متفاوتة الحجم واللون والشدة، التفت حول كتلة مهيبة من النار، تتغذي علي فروع من شجر البلوط المقدس في داخل إناء من الذهب الخالص المبطن بالحجر الأملس.
اهتزت زعـيمتهم تلك في وقـار، وتلفــتت حولها وهـي تنشـر بهـيئتها نوعاً خاصـاً من الهـيبة والرهبة، ثم تساءلـَـتْ بصوت رخيم عـميق:
- هل حـضر الكل؟
سكت الجميع لبرهة ثم أجابت نار الشمعة بصـوت خـفيض:
- لا... لا يا مولاتي... لم تحضـر نار شعـلة بئر البترول بعـد.
اهتزت نار الحطب لتلفت الانتباه إليها، ثم قالت وهي تتلفت حولها بصوت مخـتنق:
- ليعلم الجميع... أن نار شعلة بئر البترول... كـح... لن تأتي مرة أخرى.
- مطار إمبابة؟
- حسنا، تفضل.
قلتها للسائل في فتور حيث إنني أقطن بالقرب من شارع الهرم، وطريق هذا المطار وقتها كان طويلا مملا مليئا بالإصلاحات والتعديات والشوارع غير المعبدة... ولكن هناك قاعدة اتبعتها طوال فترة عملي كقائد سيارة أجرة ولم أتنازل عنها قط، وهي ألا أقـول كلمة (لا) في بداية يوم رزقي إلا في شهادة (لا إله إلا الله)... استقل الرجل السيارة وجلس بجواري، وانطلقت بسرعة متوسطة قاطعا أقصر الطرق في صباح ذلك اليوم لتجنب التكدسات المرورية... كان الراكب رجلا وقورا، مهندم الملابس، ثابت النظرات، قليل الحركات... ولم يتحدث بأي كلام ولم يَبْدُ عـليه أنه من هواة التحدث لقتل ملل طريقه، فلم أحـاول من جانبي فتح الأحاديث معه... وفي منتصف المسافة تقريبا أشار لي شابان فجنحت بالسيارة ناحيتهما وتوقفت، فقال لي أحدهما:
- إمبابة من فضلك.
قصة ثلوج كيليمانجارو للكاتب إرنست هيمنغوي، ترجمة أمل الرفاعي.
أعزائي القرّاء
تُعبّر هذه القصة عن حالة من الهذيان لكاتب مصاب بالغانغارينا وهو مُشارف على الموت؛ لذا فهي تحتوي على بعض الفقرات غير المترابطة التي صوّر فيها الخيال الأدبي للكاتب ما قد يجول في ذهن المريض المصاب بالحمى في لحظاته الأخيرة.
ثلوج كليمانجارو
تعتبر منطقة كيليمانجارو من أكثر مناطق جبال القارة الإفريقية المُغطاة بالثلوج ارتفاعاً حيث يبلغ ارتفاعها 19,710 قدما، والتي تُدعى قمتها الغربية (الماساي نغاجي ناغي)، أي: بيت الله، وهي تقع بالقرب منها منطقة جافة متجمدة تعيش فيها النمور، ولم يتمكن أحد حتى الآن أن يجد التفسير لما قد تبحث عنه النمور في مثل ذلك الارتفاع الشاهق البارد.
قال الرجل المريض: "الأمر الغريب في هذا المرض أنه غير مؤلم، لذا ليس بإمكان المرء أن يعرف متى تبدأ إصابته به "
سألت زوجته: "أهو بالفعل كذلك؟"
"تماما. وأنا آسف جداً لهذه الرائحة التي تنبعث من ساقي، لابد أن الرائحة تُضايقك."
فور علمي بطلب المسؤول الكبير بالشركة التي أعمل بها دخَـلـتُ غرفته شبه مهرول، وسمح لي السكرتير بمقابلته على الفور بإشارة من يده دون كلمة، فشعرت بأن مصيبة ما تنتظرني بعد ثوان.. وبعـد أن قرعت عليه باب مكتبه ودلفت توقفت بغـتة، حيث أشار المسؤول بيده لي بالثبات.. كان يجلس متأنقا مهيبا على مقعـد وثير يكاد يحـيطه من كل الجـوانب، ويقبع أمامه مكتب فخم ضخم يعزله ويفصله عن أي فرد يمكن أن يوجد بالغرفة الفسيحة.. لم يكن هناك غيري بالغرفة مما زاد من توتري لخصوصية هذه المواجهة.. دعاني في صمت للجلوس بإشارة من يده تجاه كرسي صغير موضوع بجانبي.. تسمّــرت للحظات متعجبا وأنا أرقب وأتفحص هذا الكرسي.. فهو يبدو قديما.. مكسوا بالجلد الرقيق دون أي حــشـو أو بطانة بداخله.. ويبرز شكل خـشبه بوضوح من خلال هذه الكسوة، كعـظام شـخص نحـيف مريض انكشـفت عظامه من وسط لحمه الذائب.. لاحظت أيضا أن كل المقاعـد الخاوية بتلك الغـرفة ضخمة وشـديدة الفخامة عدا هذا الكرسي الحقير الذي سأجلس عليه.. فأحسست بإهانة متعمدة من هذا الرجل.. ولإنهاء المقابلة سريعا دون خسائر جلست عليه ثم نظرت له مباشـرة.. كان يتابعـني بعـيني صقـر منذ لحظة دخولي وحتى لحظة مجـلسي، فشعـرت بأنه أدرك كـل ما يجول بخـاطـري لحظتها.. رحّب بي قائلا بصـوت رخـيم واثـق:
- أهلا ومرحبا بك.. يشرفنا قدومك فور طلبنا لك.
لا أعلم كيف بدأت تلك القـصة العجيبة .. ولأصدقـكم القـول لا أعلم أيضا كيف انتهت .. تتعجبون من ذلك حتما .. بالفعل لكم كل الحق .. فما حدث أثـّر في نفسي، وترك بشريط ذكرياتي عـلامة فارقة، لا يمكن نسيانها .. لقد كـنت جزءا من فيلم طويل لا أعـلم من مضمونه سوي المشاهد التي ظهرت فيها .. أما الباقي فمجهول لي .. لـم أعلم متي بدأ وانتهي .. وقد يكون ما زال مستمراً حتي اليوم بصورة أو بأخري .. إنه أحد ألغاز حياتي وأرجو أن تشاطروني ما حدث لعلي أجد السلوي والتبرير فيما مررت به ..
كنت أراه كل يوم وأنا ذاهب للجامعة .. كان أسمر اللون .. له شعـر مجعـد طويل أشعث شبيه بكرة السلك .. يرتدي ملابس قديمة، بالية، رثة لأبعـد الحدود، لا معالم لها .. حـافي القـدمين، وأصبح جلد أسفل قدميه سميكا متشققا كنعـال أحذيتنا .. خـاوي اليدين، وهذا طبيعي فما الذي يملكه ليمسكه؟! .. محني الظهر .. مطأطأ الرأس .. كان يسير في الطريق دون أن يعترض أحداً .. ولا يطلب أي شيء ولو حتي بالنظرات .. كنت أراه بتلك الملابس المهلهلة التي اقترب لونها من البني صيفاً وشتاءاً .. كان الفضول بداخلي قويا لأعـرف سـر هـذا الرجل .. عندما أمر بجانبه أشعر وكأننا من عـالمين متوازيين مخـتلفين .. كـنت أرتـدي ملابـس جـديدة متنوعة، وأنتعـل حذاءاً ثميناً، ومعي نقـود تكـفيني، وأسـرة تؤازرني، ومستقبل ينتظرني، وشلة أصدقاء تساندني .. أما هـو .. أأبصق عـلي نفسي خجلاً؟! .. ولكن ما ذنبي تحديداً؟! .. وهـنا يأتي سـؤال أهـم .. وما ذنـب هـذا الرجل علي ما هـو فيه؟! .. إنها تساؤلات تجـنح بنا الآن عـما أريد أن أعـرضه .. من هـو هذا الرجل؟! .. وكيف يعـيش؟! .. أهـو غـريب ضل الطريق؟! .. أهو مجنون؟! .. هـل هـو هـارب من اسرته أو من شيء ما؟! .. أأصــم هــو أم أبكـم؟! .. هـل له نـظـرة فـلسفية خالصة فيما يفعله؟! .. هل هو متعـلم أم جاهل؟! .. أيدرك حدود المجتمع الذي من المفترض انه يعيش فيه ويعلم الفرق بين الصواب والخطأ؟! ..
تطلعت إلي وجه الشيخ الجالس أسفل شجرة ضخمة .. كان ينظر للصحراء أمامه وكأنه يقرأ سطوراً كتبت علي الرمال أو تشكلت في أفق السماء .. لقد قطعت مئات الأميال لأصل لهذا الرجل، لعله يرشدني عن استفهامات طالما أقلقتني ولم أجد لها الإجابات الشافية .. كان صيته يسبقه في كل مكان، وتأججت شهرته من كونه يجيب علي أي سؤال يطرح عليه بكل بساطة .. أي سؤال .. بل ويلقي بالإقناع في قلب سائله دون مشقة ..
تقدمت إليه في رهبة بعد أن علمت من خادمه أن وقتي معه فقط خمس دقائق .. بعـدها يجـب أن أتركه ليأتي غيري .. جلست أمامه وأنا ألقي السلام، فنظر لي بوجه مشرق باسم وهـو يرده وبأحـسـن منه .. ثم ابتسم في رقة معـلناً انتظار سؤالي .
بلعـت ريقي وبدأت في السؤال من فوري بصوت خفيض :
- سأبدأ بحياتنا .. ما هو جوهـر الحياة يا شيخنا ؟
في ليلةٍ ظلماء أخرجَ الراهبُ سراجًا ليُنيرَ ظلمة صومعته القابعة تحت جُرْفٍ هارٍ أسفل تل خارج منطقة مأهولة بتجمع بشري فشرع في تأدية طقوسٍ ذات طابعٍ روحاني طالما أعتقدَ بأنها هي الحق ما بين العالمين وبينما هو في لحظاته المُتَروحنة طُرقَ البابُ طرقًا شديدًا فأوجس خيفةً الراهبُ فهو ليس بمعتادٍ أن يأتيه أحدٌ في هذا التوقيت الزمني في يومه الشبه مُنعزل عن التجمع البشري الذي بجواره، ذهب صوب الباب بتأنٍ وحينَ اقترب من الباب وإذا بصوت الطرق يخفت قليلاً حتى اختفى! بدأت أحاديث النفس تتصاعد حتى استولت على مُخيلة الراهب التي أدخلته في حالةٍ من السرحان العميق حتى استفاق على صوت طرق الباب مرة أخرى! رجع الراهبُ إلى الخلف (عن الباب الذي بدأ يهتز من الطرق الذي أصبح أشدَّ من سابقه ) ووقــف فـي منتصف الصومعة ورأسه بين كفيه العاريتين من أي وسيلةٍ للدفاع عن النفس! وبعد بُرْهةٍ اختفى الطرق وأنسل الصمت في أرجاء الصومعة بشكلٍ مخيفٍ؛ تصاعدت أنفاس الراهب ما بين الزفير والشهيق لكن وإذا بصوتٍ أشبه ببشري متهدج يرسل في طياته نبرة مناديه للراهب! أقترب الراهبُ إلى الباب وحين وصوله للباب وإذ بالصوت يطلب منه فتح الباب ففتح الراهب الباب وهُنا حصل مالم يدر في خُلد الراهب لا من قريب ولا من بعيدٍ، وجدَ بتكوينٍ مماثل للأحجام البشرية معطيًا للراهبِ ظهره الذي يُرى كأنه قريب للملمح البشري حاول الراهبُ غلق الباب من رعب ما رأى لكن الباب لم يُغلق! وعندئذ حصلت مفاهمة:
ـ لا تفجع أيها الراهب ـ الراهب: بتلعثمٍ من أنت وماذا تريد؟! ـ لا تسل من أنا! إنما أنا رسولٌ من أهل باطن الأرض لطلبك منهم ـ الراهبُ: من باطن الأرض! ما الذي تريدونه مني؟ هيا أجبني ما الذي تريدونه مني كررها بصوتٍ مخلوط بشهيقٍ متقطع ـ أطمئن مجرد رسالةٍ يودون منك الاطلاع عليها فأتبعني إلى الأمام (ومن دونِ إدراكٍ لما يدور حوله وجد نفسه مندفعة نحو هذا الكائن تسير خلفه حتى سقط من تجويفٍ أرضي) فوقع إلى ما يشبه بريش نعامٍ ناعم الملمس، وإذا بنور يقترب منه فكلما اقتربت منه تسايرها بنفس الاتجاه أنوارٌ أخرى حتى بدأت تحلق حوله كشمسٍ قد أُشرقت، ومن دون تمهيد وقعت مُهاتفة: ـ أيها الراهبُ ألتمس لنا العُذر لطلب مجيئك لعالمنا - الراهب بافتعال شديد: لا أعذر لكم حتى أعرف ما هي الرسالة التي تودون اطلاعي عليها - على رسلك أيها المتروحن فقط استمع! فبدأت هذه الأنوار تتوهج بشكلٍ أكثر حتى خرجت جُمَلٌ بنغماتٍ سيمفونية بألحانٍ حزينةٍ على نحو هذه الشاكلة "النجم الثاقب قد آنَ، النجم الثاقب قد حانَ، النجم الثاقب سيكون بيانا".
انتهى
الصفحة 3 من 43