لم أكن أعرف أن الطريق بين مدريد وقرطبة بالقطار السريع يستغرق ساعتين فقط، وهذه هي المرة الأولى التي أمر فيها على قرطبة منذ ثلاثين عاما، فأنا لم أدخلها من قبل ولم أزر مسجدها الشهير، ساعتان فقط.. شيء عجيب، كنت أظن أن قرطبة وغرناطة بعيدتان جداً عن مدريد، فإذا بهما قريبتان، قريبتان إلى درجة أنني لا أستطيع أن أسمي رحلتي هذه رحلة أندلسية، فموضوع الأندلس لم يبدأ في مدريد، ولكن في دمشق، والرحلة الأندلسية بدأت بولادة حضارة أذهلت العالم قروناً، وشكلت جسراً ضخما للمعرفة بين الشرق والغرب قبل أن تأفل نجومها وتنطوي صفحاتها، وتصبح أحاديث وأشعارا وحنينا غامضا في صدور قوم لا يفقهون حركة التاريخ إلى درجة تكرار مآسيها بحذافيرها وبنفس آلياتها.
هذه هي المرة الاولى منذ ثلاثين عاما التي أقصد بها منطقة الجنوب الاسباني آتية من مدريد ، وبالقطار ، وهذه هي المرة الاولى التي اعيش فيها هذه التجربة الغريبة ، مواكبة خطوط سير سكان شبه الجزيرة الإيبيرية من المسلمين الذين طردوا من هذه البلاد واستؤصلوا عن بكرة أبيهم منها ، وهذه هي المرة الاولى التي استمع فيها وخلال ثلاثين عاما في اسبانيا الى برنامج اذاعي مدته ساعة ونصف بالتمام والكمال يتحدث جملة وببعض التفاصيل عن حياة "الموريسكيين" ، ومعاناتهم ، والطرق القذرة البشعة التي اتبعتها محاكم التفتيش لإبادتهم واجتثاثهم من أرضهم ودينهم ووجودهم الإنساني والحضاري ، تلك الطرق التي نجحت فيها مملكة" قشتالة "-حيث لم تكن اسبانيا في حينها تسمى اسبانيا أصلا ، ولم تكن حدودها الانسانية والثقافية والجغرافية معروفة كما هي عليه اليوم- أيما نجاح في إبادة شعب كامل ومحوه من الحاضر والمستقبل ، وإلى درجة أن قررت فيها الامبراطورية القشتالية بقيادة الكنيسة الكاثوليكية في حينها تجربة حظها مع شعوب أمريكا الجنوبية وبنفس الطرق "الناجعة " التي اتبعتها مع مسلمي البلاد والذين كانوا سكان هذه المنطقة من العالم خلال ثمانمئة عام لاأكثر ولا أقل!! أي عشرة أجيال !
سَأل باستغرابٍ: أَتبكي السَّماءُ والأرضُ ؟فجاءَه الجَواب: "وما للأرضِ لا تبكي على عبدٍ كان يعمرها بالركوعِ والسجودِ ؟"وما للسماءِ لا تبكي على عبدٍ كان دَمعُه يَسبقُ دعاءَه ساعةَ القنوت ؟
نَعَم تبكي السماءُ كما تَبكي الأرض على الراحلينَ من الصالحينَ والصالحاتِ.. تبكي على أرواحٍ طَاهرةٍ فاضَت وعَلَتْ..!
أصرت إبنتي لولوة على مرافقتها للإطلاع على فعاليات المؤتمر الوطني العام، وشددت على أنها تريد أن تعرف مستقبل بلدها، رافقتها ، وما إن وصلنا حتى تفرقنا وذهبت هي بعيداً لتتنقل بين الناس تسأل وتحاور وتناقش ..
أما أنا بدأت في اقتناص بعض الملاحظات ، وأقدم لكم بعضاً منها:
شدني الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام عن النجاح الباهر الذي حققته مسرحية (الكويت مشروع أمة) ، والذي كان برعاية وإنتاج جمعية الإصلاح الإجتماعي ، وشارك في بطولته الفنان حسين عبدالرضا والفنان طارق العلي والفنان عبدالعزيز المسلم وعبدالرحمن العقل والفنانة القديرة حياة الفهد وسعاد عبدالله وانتصار الشراح.
حي الميدان بعاصمة سورية (دمشق) هناك حيث بدأت قصة والدتي الغالية وحياتها ....
بين الأزقة كانت أمي تمرح وهي صغيرة
كبرت بين أطراف هذا الحي البسيط
كلما تذكرته ونظرت إلى صور ذلك الحي أعيش أجمل لحظات العمر.
شغلني كثيرا اختلاف البعض من المشايخ فيما بينهم، ولكن ليس الاختلاف ما يشغل بالي، فهذا طبيعي عند البشر، ولكن أسلوب الاختلاف والإعلان عنه، فلا أحب أن أرى طوال القامات ينحنون للمد الإعلامي السلبي، ولا أود أن أراهم إلا في اتفاق بين العامة وانسجام، وإن كان لابد من الإعلان عن هذا الاختلاف أو ذاك لسبب أو لآخر، أود أن أراهم كبارًا في رأيهم، رحماء فيما بينهم، عقلاء في طرحهم، وإحسان الظن في بالهم، والموضوعية في رأسهم، وغير متبعين هواهم، ويحومون حول الألفة الدينية، ومبتعدين عن اللمز والهمز والسخرية غير المباشرة وهكذا.
في زحمة الحياة .. في خضم الواجبات و المهمات .. قد تفوتنا أجمل اللحظات..
وقد يوقظنا مشهدٌ صغير يقول للعالم .. (أنا الإحساس..!!)
مشهدٌ صغير.. لا يتعدى الثواني.. بسيطٌ.. مفعمٌ بالحب.. بالطهر.. بالبراءة .. و الأمل..
..يزدحمُ الشارعُ صباحاً بسياراتٍ لاهثة.. خلفَ مقوَدِ كلٍّ منها.. ساعٍ وراءَ مقصده .. لديهِ في تلك اللحظةِ خصمٌ واحد يجب –حتماً و فوراً و بأي طريقة كانت- الفوز عليه .. !!
الصفحة 26 من 78