استهل عبد الوهاب المسيري مؤلفه (اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود)، بمقدمة عبر من خلالها عن جدة الموضوع الذي سيتناوله، طارحًا في الآن ذاته الهيكل العام الذي يستوحي من منجزه تصوراته في إطار مقاربة نسقية، تتوخى إضفاء نوع من الوحدة والتماسك على مختلف الحقائق الثقافية المرتبطة بالظواهر الإنسانية. إذ ينطلق الكاتب في مقاربته من سيادة الاعتقاد القائل بأن هناك نموذج معرفي، بمثابة الإجراء التوليدي الكفيل بتفجير مختلف ينابيع البنى الرمزية التي يهبها الإنسان للظواهر. والنموذج برأي الكاتب هو ذاك الواحد الكثير في مرائي مراياه، الذي تنتظم وتصطف بداخله تلك التعددية وفق نوع من المعقولية الداخلية، يكون فيها كل من الإله والطبيعة قطبي الرحى أما مركزها فهو: الإنسان. فهذا الأخير عنصر التوسط الإلزامي من شأنه صياغة الواقع وفق بنية تصورية ترادف رؤية الإنسان للكون، تعكس هذه البنية نموذجًا معرفيًا من بين نماذج معرفية أخرى (من تصور الإنسان).
كتبنا مرة في هذا الموقع مقالة بعنوان (القيم بين المنظور الكوسمولوجي والرؤية التاريخية)، فقلنا إن القيم كما تُفهم انطلاقًا من مرجعية فكرية حديثة ليست غايات مبثوثة في نظام الطبيعة، ولا هي شرائع إلهية حرفية محددة أزلاً وباقية أبدًا، بل هي مُثلٌ عليا علينا أن نسعى إلى تحقيقها، وإنسانيتنا رهينة بهذا السعي الذي يُحرّرنا من ضائقة الانتماءات ويُقرّبنا أكثر من رحابة المواطنة العالمية. لقد قلنا يومها إن الإنسان بعد الثورة الكوبيرنيكية أضحى مدعوًا إلى التشريع بنفسه لنفسه على الأصعدة السياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية. القيم تقديراته هو ولا دخْل للطبيعة أو الخالق فيها. لنُنصت لكلام ثلاث شخصيات من أزمنة فكرية مختلفة بإمعان، عسى أن ندرك الفارق بينها في النظر لمسألة القيم ونقبض على التحولات التي مسّتها في الفكر الحديث.
1. حكيم من العصر القديم: كان الحكيم يُحدّث رواد حَلَقَته من عشاق الحكمة عن أمور السماء عندما جاء أحد عبيده مهرولاً وهمس في أذنه: «سيدي، إن الغوغاء قد عاثوا في المدينة فسادًا، فلا تدخُلْها حتى تهدأ الأمور ويُؤدب العصاة». قضى الحكيم بقية يومه متفكرًا مقارنًا نظام السماوات العجيب بعبث الأرض الغريب، وبهذه الكلمات ناجى نفسه: « ما أخطأت الطبيعة التدبير إذ أسْكنت الفانين قُمامة العالم مع الأجسام الثقيلة والمُسوخ، فهم لا يرعون حُرْمة لنظام العالم ونواميسه. البشر كائنات مشوهة، والخلطة التي رُكّبوا منها تقلب ترتيب الطبيعة فتجعل رؤوسهم في بطونهم وفروجهم، ومع أن أعينهم ترى الآفاق أنّى تطلعت فإنها مُنشدّة بحبال إلى أدران الأرض وغافلة عن كنوز السماء. ارفعوا أبصاركم أيها الفانون إلى الأعالي، وتأملوا البهاء والجمال والنظام. أنى وجّهتم بصركم سترون صنعة بديعة وتدبيرًا مُحْكمًا: فكل شيء في موضعه، ولا شيء يجور على مقام غيره. انظروا حولكم وستجدون حال لسان الأشياء كلها يُحدثكم عن عدالة الطبيعة وموازينها القسط وجمالها. اتّخذوها نموذجًا في تدبير نفوسكم واقتدوا بعدلها في تسيير شئون مُدُنكم كي تستقيم أحوالكم. كلما غفلتم عن ذلك اخْتلّتْ مُدنُكم وفسدت نفوسكم. أنتم في ورْطة يا ساكني القمامة، ولا نجاة لكم مما أنتم فيه من شرور إلا إن أمّرتم حكيما عليكم، إذ هو الذي أهّلته الطبيعة ليقودكم ويُحدث في مدنكم ونفوسكم نظامًا مماثلاً لنظام العالم.
كل يوم أكتشف أن الصورة الذهنية الجمعية عند بعض شرائح من مسلمي مصر عن المسيحيين، وعند بعض شرائح من مسيحيي مصر عن المسلمين، تمتلئ بالأوهام، وهذه الأوهام صنعت صورًا ذهنيةً سيئةً في معظم الأحيان، كما أن السينما والدراما التلفزيونية (التي تسمي نفسها واقعية) تقوم بمهمة غير نبيلة حينما تقوم بإعادة بثّ هذه المخلفات الثقافية الرديئة، دون أدنى محاولة لتغييرها، مما يعززها في نفوس معتنقيها، ولا يزيدنا إلا غرقًا في نفق مظلم من الصور الذهنية والأحكام المسبقة السيئة، والأحكام المسبقة المضادة من الطرف الآخر على السواء. لهذا كتبت هذا المقال، محاولةً مني لتصحيح هذه الصور الذهنية الباطلة، التي تكوّن جزءًا من التربة الثقافية للكراهية، والتي هي باطل لا أساس لها إلا الأوهام، ومنافٍ للإسلام تمامًا.
تسعى مختلف التيارات العربية المنتمية إلى إيديولوجيات مختلفة، إلى بلورة تصور متكامل للرقي بأوطانها ومن خلالها الرقي بالأمة العربية ككل، ونقصد بالأمة العربية الدول والكيانات التي تنتمي لثقافات المنطقة التي حكمها العرب منذ الإسلام خصوصًا بمختلف تنوعاتها الدينية واللغوية والاثنية والعرقية والطائفية والمذهبية...، وقد طرحت في هذا السياق عدة نظريات يمكن أن نجملها في تيارين رئيسيين، يضم الواحد منهما العديد من المرجعيات الفكرية والأطر النظرية، التي تتباعد أحيانًا وتتقارب أخرى، وهما التيار الحداثي الليبرالي وهو الذي لم ير بديلًا عن النموذج أو النماذج الغربية لتحقيق أي نهضة مرتجاة في عالمنا العربي ، باعتبار أن ما وصل إليه الغرب لا يمكن، بأي حال من الأحوال، الحياد عنه لمثاليته وكماله على مستوى الإطارات النظرية والتطبيقية التي نشاهد نجاحاتها بأم أعيننا في الأمثلة الكثيرة لنجاحات الدول الغربية، وفي مقالي هذا ليس الهدف نسف هذا الطرح أو إثباته، بقدر ما هو فتح باب لطرحٍ بديلٍ أو تكامليٍّ يمكن أن يسير إلى جانب الأطروحات الأخرى، والتيار الثاني الذي هو صلب اهتمامنا في هذا المقال هو التيار السلفي، والذي أريد أن أضع له تصورًا تصحيحياً سواء لدى المنتمين لهذا التيار أنفسهم أو لخصوم هذا التيار.
كثر الحديث خلال العقود الأخيرة في العالم العربي والإسلامي عن دعوات فصل السياسة عن الدين، أو ـ بمعنى أدق ـ فصل الفعل السياسي عن الفعل الديني، الأول: المرتبط بالاجتهاد البشري الصِّرْف القابل للنقاش والاختلاف، والثاني: المرتبط بالمقدس الإلهي المتفرد بالإلزام بلا خوض ولا نقاش، ولعل المتأمل لهذه الدعوات يجد أنها في حقيقة الأمر ما هي إلا تلطيف لمفهوم العلمانية، والتي أجد أدق تعريف لها هو ما قالت به دائرة المعارف البريطانية "حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الدنيوية بدلًا من الاهتمام بالشؤون الأخروية، وهي تُعتبر جزءًا من النزعة الإنسانية التي سادت منذ عصر النهضة الداعية لإعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به بدلًا من إفراط الاهتمام بالعزوف عن شؤون الحياة والتأمل في الله واليوم الأخير، وقد كانت الإنجازات الثقافية البشرية المختلفة في عصر النهضة أحد أبرز منطلقاتها، فبدلًا من تحقيق غايات الإنسان من سعادة ورفاه في الحياة الآخرة، سعت العلمانية في أحد جوانبها إلى تحقيق ذلك في الحياة الحالية"، إنها بمعنى آخر إقصاء الدين والتفكير الديني في الشؤون الدنيوية، وفي حقيقة الأمر كان دعاة العلمانية أو فصل الدين عن الدولة خلال مرحلة أسبق في بلداننا الإسلامية، أكثر شجاعة وتحرُرًّا من النسق الاجتماعي المهيمن من نظرائهم اليوم، ودعونا نقل بنوع من الدغمائية ـ بمعناها الإيجابي ـ أنهم كانوا أقل نفاقًا من نظرائهم اليوم؛ إذ دعوا صراحة إلى فصل الدين عن الدولة بصفته لا يتوافق مع العصر وباعتبار الفكر الديني المقدس يحيل إلى الثبات و الجمود، وهو ما سينعكس سلبًا على المجتمع ويجعله متخلِّفًا حسب زعمهم، وهو ما لم يستطع دعاة اليوم القول به صراحة حينما اكتفوا بالدعوة إلى عدم الجمع بين ما هو ديني وما هو سياسي أو بمعنى عدم استغلال الدين في الدعوات السياسية.
القيم جمع قيمة، وقيمة الشيء سعره أو ثمنه، فالقيم وفق المعنى اللغوي هي حصيلة التقدير والتقويم، وما التقويم إلا تقدير الثمن الذي يجب دفعه مقابل الحصول على البضاعة في وقت ومكان معلومين. تمنحنا الدلالة اللغوية خطاطة أولى نرى الأمور من خلالها، فالقيم أولاً تقديرات بشرية وليست ترتيبات طبيعية أو تدابير ربانية، وهي ثانيًا نسبية تتغير بتغير المكان والزمان، وليست أزلية وأبدية. لم نستنفذ المعاني اللغوية بعد، إذ عندما نقول: لهذا الشيء قيمة، نود أن نعلي من شأنه، وعندما نقول عنه إنه بلا قيمة نحط من شأنه. وعليه، فإن التقويم سلم ترتب فيه الأشياء حسب تقديراتنا بين حدين هما النفيس والبخس، وبين الحدين مراتب كثيرة. ثم إن تقديراتنا للقيمة قابلة للتصحيح بموجب المعنى الاشتقاقي للفظ التقويم مادام تقويم الشيء هو جعله مستقيمًا وتصحيح ما به من اعوجاج. لنجمل الحصيلة ونقول: في عملية التقويم نمنح القيمة ونصحح الاعوجاج. لنترك الآن الحقل الاقتصادي (وهو الرحم المولد للاستعارات في هذا الصدد) ولنتحدث عن حقل آخر للتقويم لا نقدر فيه قيمة البضائع والسلع، بل نقوم فيه الأحكام، وخاصة أحكامنا الخلقية، ففي هذا المجال (إلى جانب الجماليات) تتجلى قوة التقويم بالمعنيين السابقين، أي نمنح قيمة لأفعال معينة وننزعها عن أخرى، كما نعمل على تصحيح هذه العملية ونصلح ما بها من عوج، فيصبح التقويم تربية وتهذيبًا. تسفر العملية الأولى عن إصدار الحكم (هذا حسن، وذاك قبيح. ذلك خير، وهذا شر...) وتعمل الثانية على إصلاح ما في الأولى من خلل. نطرح في هذا الصدد تساؤلين اثنين: على أي أساس نقوم؟ وكيف نقوم؟ وسنجيب عنهما من خلال استحضار نمطين من التفكير أحدهما قديم والآخر حديث دونما غوص في التفاصيل. ارتبط التقويم في الفكر القديم (اليوناني) بمنظور معين للعالم هو المنظور الكوسمولوجي. فلقد ذهب القدماء إلى أن الأشياء والكائنات التي يتألف منها العالم تشكل كلاً متكاملاً، حجمه محدود وشكله كروي وأشياؤه
من الظواهر التي تبعث الأسى في مجتمعنا الإسلامي نشاط المتخيل الجمعي المذهبي في تشكيل صور نمطية تحمل عناصر الضدية للآخر فتفرض ذاتها على الذاكرة الجمعية بثقل الشغف لا تهتم بها إن كانت صائبة أو خاطئة فتحل الصورة محل الواقع وتندرج ضمن سياق الصراع على المواقع والمصالح والرموز، وهو صراع يحركه رجال يدعون الدين وينفذه جنود وإعلام دعائي تهويلي مكرور، أو يحركه ويحرسه بهلوان الساسة من أجل تلك المصالح؛ فتتمدد رموز وشخصيات من الماضي البعيد أو الحاضر المرهون للماضي بالصور المضادة للحقيقة على الاختلافات والمتناقضات تؤكد مشاعر النفور والاستبعاد ومن ثم اللجوء للعنف.
الصفحة 6 من 40