يقول كافكا وهو كاتب يهودي:
"الكتابة تكليف لم يكلفني به أحد"، وكلامه سليم إلى حد ما، ولكن لو سألت نفسك لماذا نكتب؟ تستطيع وتستطيعـ/ ين القول: إننا نكتب لنسعد أنفسنا أولاً، ومن حولنا ثانياً، نكتب لإيصال رسالة للمجتمع والعالم كله، نكتب لنبقى على قيد الحياة، فتراكمات القراءة في نفوسنا تضغط على أعصابنا فنفرغها بالكتابة، لذا يعد القلم من أنجع سبل العلاج للمتضايقين، يفرغ شحناته على صفحات الورق ، وليكن صادقاً فذلك أحرى بشفائه مما هو فيه..
منذ اختراع الورق زادت الحاجة إلى الكتابة أكثر، وأصبح القلم شرهاً بيد الكاتب لدرجة أن اليوم الذي لا تكتب فيه ولو تغريدة في تويتر تشعر بالاختناق، وعلى الجانب الآخر هناك قارئ نهم يشغل يومه بقراءة شيء مفيد، وهكذا..
فأنا أكتب لأتحرر من القيود التي تكبلني كل يوم، فإيقاع الحياة السريعة يحتاج إلى وقفات، إبان انهماك كل منا في عمله، ومتطلباته ومتطلبات بيته وأسرته..
يرى العديد من دارسي النظرية السياسية أن الديمقراطية هي “إستثناء يقوم في مجتمعات إستثنائية “. ويعتمد تعريفها على ضوء هذا التحديد –حسب المفكر السياسي والسوسيولوجي الأمريكي لاري دايموند- على تصورين مفاهيميين: تصور رقيق /دقيق، يمتح من تعريف العالم الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر، والذي يعتبر الديمقراطية نظاما يسعى إلى بلوغ قرارات سياسية ينال من خلالها الأفراد سلطة اتخاذ القرار،عن طريق خوض صراع تنافسي من أجل الحصول على صوت الشعب (انتخابات حرة ونزيهة)، وهو مايشكل التعريف الاجرائي لمعنى الديمقراطية .ثم تصور سميك /عريض، ينظر إلى الديمقراطية باعتبارها مجمعا للخاصيات والقيم العامة،المتمثلة أساسا في وجود قدر كبير من الحريات الفردية والحرص على تفعيل مبدأ التعددية وتكافئ الفرص وضمان مساواة الأفراد أمام القانون وإستقلال القضاء والتأكيد على حقوق الأقليات الإثنية والدينية والعرقية وترسيخ أسس العمل المؤسساتي الشفاف الحر ووجود مجتمع مدني فاعل ومستقل وحق الأفراد في التصويت والترشح والمنافسة في الانتخابات، وهو مايمثل التحديد المؤسسي للديمقراطية . على أساس هذين التصورين المختلفين، يمكن الوقوق على نمطين من الدول- في تعاملها مع الإوالية الانتخابية- وهما الدولة الديمقراطية بالانتخابات والدولة الديمقراطية "انتخابيا" . في هذا الشأن، تتحدد درجة الدمقرطة في أي نظام سياسي حسب توافر أو غياب مختلف الشروط الموطدة لمفهوم النظام الديمقراطي الليبرالي (الدولة الديمقراطية "انتخابيا")، والذي يتموقع في منأى عن النظام الديمقراطي المزيفPseudo Democracyأو النظام التسلطي الانتخابي Electoral AuthoriatrianRegime، ( الدولة الديمقراطية بالانتخابات) .ومن ثم، تبرز أهم طرق إحلال الديمقراطية داخل المجتمعات “الإستثنائية” في توفير الظروف المواتية لبناء صرح الحكامة السياسية/الديمقراطية، وبالتالي كبح جماح مختلف العراقيل التي يمكن أن تحد من جهة، من فرص الانتقال الديمقراطي "الحقيقي" ، ومن من جهة ثانية، من امكانيات الانتقال من الدولة الديمقراطية بالانتخابات إلى الدولة الديمقراطية "انتخابيا" .
أولا: الدولة الديمقراطي بالانتخابات
الدولة الديمقراطية بالانتخابات، هي الدولة التي تضفي على نفسها أسس من الشرعنة La légitimation ،عبر إوالية الانتخابات وجعلها مطية لتحقيق المزيد من تجسيدات " السلطوية الانتخابية" أو النظام التسلطي الانتخابي وتكريس كل أبعاد مايعرف بالديمقراطية الجزئية القابعة في منأى عن أي رقابة أو تتتبع ، خاصة من طرف هيئات السلطة الرابعة (الإعلام) تنظيمات السلطة الخامسة (المجتمع المدني ) وأفراد السلطة السادسة( المواطن ). إن دعائم الدولة الديمقراطية بالانتخابات، تتمثل كدعائم "دوغمائية البنيان" وتتبلور في اطار عملية – ما يسميه المفكر النقدي والباحث الأكاديمي الراحل محمد أركون -" التنافس على المعنى"، المتسم وفق تأملات الأنظمة الماورائية الكلاسيكية، بكونه "كليا، شموليا ونهائيا"، والموطد لتلك الإرادة التعسفية الممزوجة بكل أشكال الاستبداد والسيطرة والهيمنة، والصادرة من الحاكمين تجاه المحكومين . إنها الدولة، التي تعمل بكل ما أوتيت من قوة، على جعل صناديق الاقتراع واجهة شكلية لإمتطاء صهوة المشروعية السياسية وتحويل الانتخاب-ووظيفته- كآلية ديمقراطية إلى مجرد غاية لتأثيث الواجهة الديمقراطية للدولة وتلميع صورتها أمام المنتظم الدولي ليس إلا، مع ما يرتبط بذلك، من تجسيدات "قهرية" للعبة انتخابية "منهوكة القوى"،من قبيل بلقنة الخرائط السياسية وتمييع التعددية الحزبية والتضييق على مبدأ المشاركة الفعالة والمسؤولة واستشراء الفساد الانتخابي وتفشي كل أشكال تزوير وتدليس الإرادة الشعبية... وخلق كنتيجة لذلك، مؤسسات "متخمة بالهشاشة"، أي " معطوبة" انتخابيا وفارغة تمثيليا. ومن ثم، التحول من أسس الدولنة القوية إلى معالم المأسسة الهشة، وهو مايشكل أكبر خطر محدق قد يحيق بالأساس الديمقراطي الحقيقي للدول، خاصة تلك التي مازالت تئن تحت وطأة مخاضات " الانتقال" . إن الانتخابات على هذا الصعيد، لا يمكن بالإطلاق أن تشكل الدرج الأخير لبلوغ المقصد الديمقراطي. فالديمقراطية تظل أساسا في البداية والنهاية، أملا مرتجى يتطلب الكثير من التضحيات الجسام لتحقق بعض مرتكزاته "الفضلى"، ولن يتأتى ذلك إلا بالتدرج المرحلي في صياغة القضايا الكبرى المصيرية للوطن، من قبيل الحريات والحقوق وأسس التعايش والتعاون والحياة المدنية والممارسة العملية... في هذا السياق، فالديمقراطية لم تكن يوما من الأيام مجرد نظرية صرفة. وعلى ضوء ذلك، يصبح ضربا من العبث القول، أن الانتخابات تشكل لوحدها الديمقراطية بعينها، كما لا يمكنها أن تستغرقها برمتها، وعكس ذلك سيكرس عمق المآسي التي يمكن أن تلحق بدولة من هذا النوع، أي الدولة الديمقراطية بالانتخابات، والتي ستصبح بالتالي دولة هشة بديمقراطية "اكلينيكية"، مع بروز تمظهرات حقيقية لتشوهات عميقة: إجهاض الشرعية، إضعاف المشروعيات، الضرب الصارخ في أسس التداول السلمي في تدبير الشأن العام، تفشي مظاهر الفساد السياسي، الشطط في استعمال السلطة، انتشار مظاهر اللاعقاب والصفح المجاني وغياب المحاسبة والمسألة ، إفراغ المؤسسات السياسية من الجدوى الوجودية... وبالتالي، القضاء على مستلزمات الحكامة الانتخابية الجيدة .
ثانيا: الدولة الديمقراطية انتخابيا
الدولة الديمقراطية "انتخابيا"،هي الدولة التي تعتبر فيها الانتخابات إحدى آليات التعبير عن الإرادة الشعبية المواطنة، والتي تتجسد على وجه الخصوص في الاختيار الحر والنزيه لمن سيمثل هذه الإرادة في المؤسسات الشرعية، مع جعل كل ذلك طريقا نحو تجسيد التمظهرات الأخرى للديمقراطية . ومن ثم، خلق انعكاس واضح للتوجهات السياسية المختلفة، التي تعتمل داخل أية دولة من الدول – وفق منظور David Beetham-. إنها الدولة التي ترنو أساسا، إلى ترسيخ عبر الآلية الانتخابية أواصر التلاقح والتعايش بين سائر الشرائح المكونة للمجتمع، بصرف النظر عن انتماءات أعضائها العرقية أو الجنسية أو الدينية أو الفكرية او الثقافية ... ويبقى أهم مبدأ من مبادئ هذه الدولة، هو مبدأ المواطنة الانتخابية، حيث يعرف الفرد تعريفا قانونيا، اجتماعيا وسياسيا كمواطن، أي أنه عضو في المجتمع تخول له مجموعة من الحقوق وتفرض عليه جملة من الواجبات (التصويت كحق وواجب في آن واحد). بالإضافة إلى ماسبق، إن روح الديمقراطية وكنه شرعية النظام السياسي، يرتبطان بوجود وكفاية المشاركة السياسية ، وتمكن أهمية هذه الأخيرة، في القضاء على اللامبالاة والسلبية لدى أفراد المجتمع، إذ تغرس فيهم القيم الرفيعة للمشاركة الايجابية والفعالة . كما أن من مستلزمات الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، انتظام العلاقات وتداخل الوظائف التي تشتغل في اطارها الدولة الحديثة العقلانية، ومنها الأساس التعاقدي " اختيار المواطن لمن يمثله بكل ارادة وحرية" وتبني المسطرة الانتخابية لانتقاء الأفضل ووضع الثقة فيه من منطلق التمثيل الديمقراطي الرصين المنبعث من "الانتخابات الحرة، الشفافة، النزيهة والمسؤولة" . وبذلك يشكل المدخل الانتخابي جزءا لا يتجزأ من المنظومة الديمقراطية القمينة بتحقيق مطالب التغيير وتجسيد مظاهر التحول التي يمكن أن يعرفها أي نظام سياسي قائم، عبر التوسل بانتخابات "محوكمة"- أي ذات جرعات زائدة من مقومات ومبادئ الحكامة الانتخابية الجيدة- متبوعة لزوما بتداول سلس ومرن للسلطة بين النخب الفاعلة والمعتملة في دواخل الحقل السياسي. إن كنه الديمقراطية الحقة والصلدة، يبرز بشكل جوهري، في الحرص الأكيد من دولة الديمقراطية "انتخابيا " ، على اجراء انتخابات "فعلية"، وليست "شكلية" تؤسس لتغير حقيقي في أنماط ممارسة السلطة، انتخابات سليمة ذات مصداقية، غير قابلة لأي شكل من أشكال الطعن أو النقد. إنها الانتخابات الموطدة لمأسسة مستمرة للفعل الانتخابي، عبر مختلف مساراته ومحطاته : الرئاسية، الاستفتائية، التشريعية، الترابية ...
علاوة على كل ذلك، تتوطد الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، باعتبارها دولة الديمقراطية الحقة، تتمظهر أبعادها الجوهرية في كونها دولة الحق والقانون، دولة المؤسسات، دولة التعدد والتنوع بسائر تجلياته الثقافية واللغوية والدينية والفكرية والإيديولوجية، كما يمثل التداول على السلطة أساسها التكويني، من منظور أنه كنه النظام الديمقراطي القويم . إن مختلف تمظهرات الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، تتبلور أساسا في سائر معالم الانتقال الديمقراطي. إن الانتقال الديمقراطي ، باعتباره -كما يرى أستاذ العلاقات الدولية مايكل هودسون – "العملية التي تصبح عبرها ممارسة السلطة السياسية من طرف الدولة أقل تعسفا وأقل استثناء للآخرين "، تبرز ملامحه " الارهاصية" كسيرورة تاريخية متطورة، تتوخى جعل الأنظمة السياسية تتهافت على السير الحثيث نحو "الدمقرطة" وتحويل بنياتها من بنيات تسلطية إلى بنيات ديمقراطية، وتتبلور تجلياته "الكبرى" كمخاض سياسي وفكري تمر به المجتمعات على شتى الأصعدة. إن من بين أبرز مؤشرات تكريس مسارات الانتقال الديمقراطي، نجد المؤشر المعياري الموضح للعلاقة الوطيدة التي تربط الديمقراطية بقضية حقوق الإنسان، ومدى تداخل كل ذلك مع أدوار المجتمع المدني بشتى تنظيماته، ومنها التنظيمات الحقوقية . إن مفهوم الانتقال الديمقراطي من بين المفاهيم السياسية التي استأثرت أكثر من غيرها من المفاهيم، بالاهتمام والتداول، على اعتبار أن الديمقراطية هي المطلب الجوهري خلال الظرف السياسي الراهن لأية دولة من الدول، وعلى اعتبار أيضا أنها ليست سوى نمط معين لتنظيم المجتمع وربط مختلف أجزائه ومستوياته بعضها ببعض، من أجل تقوية قدرة فعل هذا المجتمع، تجاه نفسه، أي إمكاناته وطاقاته ، وتجاه محيطه الطبيعي والاجتماعي. هكذا، تمثل عملية الانتقال الديمقراطي أحد الانشغالات الأساسية في أدبيات العلوم السياسية، حيث برزت مجموعة من النماذج النظرية والأطر التحليلية التي حاولت تقديم عدة شروحات لتفسير عمق ودلالات هذه الظاهرة السياسية. فرغم تباين وجهات النظر الفكرية حول الادراكات المختلفة لمفهوم "الانتقال الديمقراطي" ، فهناك اقرار بكون هذا المفهوم يستعمل لوصف التحولات الجذرية التي تقع في نظام سياسي معين يتميز بطبيعته الشمولية . هذه التحولات، قد تتخذ أشكالا متنوعة، وتتم على مستويات مختلفة بحسب تجارب الانتقال الديمقراطي التي عرفتها بعض الدول خلال الربع الأخير من القرن الماضي، ولكن الأساسي فيها هو الانفتاح المتزايد على القوى الفاعلة داخل المجتمع ونخبه (أحزاب، نقابات، تنظيمات مدنية ... ) وعلى مطالبها الأساسية. وهذا مقابل تخلي النظام الحاكم عن احتكار السلطة ومركزة القرارات في دوائر ضيقة ، مما يخول للطاقات الفردية والجماعية أن تبرز إلى حيز الوجود وتعبر عن طموحاتها وتطلعاتها الديمقراطية. من هذا المنطلق، فإن تأمين انتقال ديمقراطي حقيقي، يتطلب انخراطا من قبل الدولة والمجتمع بمختلف نخبه السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية، الشيء الذي يوفر المناخ المناسب لتحقيق انتقال ديمقراطي مبني على أسس متينة ويتوخى ضمان الانتقالات على شتى الأصعدة مع ضرورة تجدد هذه النخب –عبر آليات الانتخابات أساسا – بشكل دوري، مرن وسلس . عموما، يجد مضمون عبارة الانتقال الديمقراطي ترجمته في مجموعة من الخصائص والمميزات ذات الطبيعة التجريبية الدالة بالملموس على تغيير فعلي في المؤسسات والقوانين وفي أساليب ممارسة السلطــة وفي علاقات الحاكمين بالمحكومين. في هذا السياق، نرى ضرورة تبلور شروط عديدة( سياسية، دستورية، قانونية، اقتصادية، اجتماعية وثقافية) تمثل الحد الأدنى لدفع امكانات التطور السياسي نحو الديمقراطية، باعتبارها نظام يعرف توظيف آليات ورموز وسلوكيات وعلاقات بين مختلف النخب وتداول لإدراكات ومواقف وقيم حول النظام السياسي وأسسه الديمقراطية والتدرج ضمنها بأسلوب مرحلي هادئ. كل هذا يعني، أن الانتقال الديمقراطي هو سيرورة سياسية، تنطلق دون أن يتغيب عنها أي فاعل من الفاعلين.. إن محاولة تحديد عملية الانتقال الديمقراطي ، كسيرورة متطورة ومتجددة ، والتي أخذت تعرفها بعض التجارب السائرة في درب التحول الديمقراطي، وباعتبارها عملية الانتقالات الكبرى في شتى التجليات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والديمغرافية، تجعلنا نقف أمام ما يطرحه الانتقال الديمقراطي في عموميته، أما الانتقال الديمقراطي على مستوى بلد معين، فإن أول ما يطرحه، هو مسألة النموذج الكفيل بتحقيق طموحات الانتقال الديمقراطي (1) ،كما هو الشأن في بعض البلدان العربية- التي قامت بارساء شروط للحياة الديمقراطية ( وضع دستور للبلاد ينظم مؤسساتها، تعددية حزبية، تنظيم انتخابات دورية، الاهتمام بالمكونات المدنية... ) وغيرها من الإجراءات والمعايير التي تشكل نوعا من اعادة الترتيب للواجهة الديمقراطية للأنظمة السياسية ، دون المس بجوهرها، تماشيا مع متطلبات المد الديمقراطي العالمي وتخفيفا للظغوط الشعبية المتزايدة، وفي اطار نمط جديد من الانتقالات النادرة التي بدأت في هذه البلدان ، والتي أخذت تجرب تحولات خجولة، أي ما عبر عنه تيري كارل وفيليب شمايتر ب "الانتقالات المفروضة"(2).
ثالثا: الفرق بين الدولة الديمقراطية بالانتخابات والدولة الديمقراطية "انتخابيا":
* إذا كانت الدولة الديمقراطية بالانتخابات، تتوخى التعامل مع الديمقراطية كغاية في ذاتها، فإن الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، هي الدولة التي تبنى انتخابيا، وتجعل من الانتخابات فقط وسيلة لتحقيق مطالب أخرى سياسية، اجتماعية، اقتصادية، ثقافية... * إذا كانت الدولة الديمقراطية بالانتخابات، تتأسس على قوة الإيديولوجيا، فإن ركيزة الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، هي قوة "المعنى" ، أو بالأحرى "البحث عن المعنى" أو "رهانات المعنى "، وفق الفهم الأركوني – خاصة في كتابه " الإسلام، أوروبا، الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة"- حيث تتبلور هنا، فكرة اللعبة - ما يعنينا في هذا الصدد، اللعبة الانتخابية أساسا- لعبة صيرورة العالم، الشبيهة باللعبة بالمعنى الحرفي المقصود للكلمة، والتي تخضع سيروراتها للقواعد والقوانين المتعارف عليها في اللعب، ومنها الإيمان بمنطق متغيرات الصدفة، ومايرتبط بها من عناصر من قبيل، المفاجأة وعدم التوقع أو التخمين. وكخلاصة لهذا التحليل، تبرز نتائج اللعبة الانتخابية(أحزاب تتنافس وتتصارع، بغية كسب تعاطف الناخبين واستمالة أصواتهم) كنتائج غير منجزة أو غير متوقعة تعكس بالتالي مدى حنكة ودهاء الفاعل السياسي"الفائز باللعبة"، بعد منافحته للخصم في الظفر بالنتائج الايجابية وتبوأ مراكز الحكم والقيادة .
*عكس التمظهرات الحقيقية للدولة الديمقراطية"انتخابيا"، فإن الدولة الديمقراطية بالانتخابات- وفي اطار من التناقض الصارخ- هي وجه من أوجه الدولة التسلطية أو دولة التي تمارس القهر ( حسب Philippe Droz Vincent) وثقافة الاقصاء الأفقي والعمودي مع تسويغ آلياتهما وشرعنتهما ،والتي غالبا ماتفتح الطريق لقيام الدولة البيروقراطية الحديثة ( من منظور Gjassane Salamé) مع ما تشكله هذه الدولة من تجسيدات "قهرية" تجعل من الانتخابات وسيلة للضبط والتدجين، في حين نجد، أن الدولة الديمقراطية "انتخابيا" تتتبلور كدولة تعمل جاهدة على استئصال كل أشكال القهر والاقصاء وتغييب الآخر والتحفيز على أواصر الاندماج والتعايش وتكريس سلوك المشاركة الايجابية والفعالة. ومن ثم، فهي اعلان صريح عن ميلاد ما أطلق عليه في الأدبيات الديمقراطية بالدولة الليبرالية الدستورية البرلمانية، والتي تجعل من الانتخابات آلية مؤسساتية منتجة لأبعاد الديمقراطية الحقة.
*صعوبة نضوج العوامل التاريخية الضرورية لنشوء الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، باعتبارها دولة الديمقراطية "الكاملة"، لوجود جملة من الكوابح الموضوعية التي تعيق هذا النشوء أو على الأقل تشوه بعض تواجداته "الارهاصية " ، وعلى النقيض من ذلك، يبدو الباب مفتوحا على مصراعيه أمام الدولة الديمقراطية بالانتخابات، مادامت أنها تتوخى كرهان تحقق شروط جزئية، وذلك من منظور أنها تتجلى في نهاية المسار كدولة لديمقراطية جزئية ليس إلا.
*تنشأ الدولة الديمقراطية بالانتخابات في دواخل ديمقراطية "اكلينيكية"،ميتة موتا سريريا، في حين أن الدولة الديمقراطية "انتخابيا "، تولد في أعماق مفهوم جديد، هو مفهوم الحكامة. هكذا، تنبثق "حكامة جمعية" على أنقاض "ديمقراطية منفردة"،أي ضمان انتقالية سلسلة من "أنظمة الحكم" إلى "أنظمة الحكامة"، مع ما يتبعه ذلك من ترسيخ لأسس التنمية المستدامة واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية كقيم ديمقراطية وربطها بالمبادئ الكبرى للحكامة (المشاركة، المساءلة، سيادة القانون،الفعالية والنجاعة والكفاية، المساواة والاندماج الاجتماعيين، التفاوض، التوافق والرؤية الإستراتيجية) .وهنا تجد أطروحة أرنولد توينبي مكانتها، والتي تؤكد على أن "الديمقراطية هي السوء الأقل بين الأنظمة السياسية التي عثر عليها الإنسان"، ولتتطور الفكرة لتصبح "الحكامة هي النظام الأحسن من الأنظمة التي بلورها الفكر الإنساني في ميدان التدبير في شتى تمظهراته : السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية ... "هنا تموت آلية الديمقراطية، وتزرع أعضائها/قيمها/ مداميكها في جسد جديد هو جسد الحكامة ،حيث يتم إثراء هذه الأخيرة بكل أسس وركائز الديمقراطية (التداول السلمي للسلطة والتناوب عليها انتخابات حرة وشفافة ونزيهة،التفاوض الايجابي وتدبير الاختلاف، القيام على نظام من فصل السلط وتوازنها وتعاونها، محاربة الفساد والرفع من مؤشر الشفافية، استقلال الإعلام وبلورته كسلطة رابعة، حرية التجمع والتنظيم والتعبير، خلق منظومة رفيعة لحقوق الإنسان،ترسيخ هيئات المجتمع المدني وإرساءها كسلطة خامسة، صياغة اللبنة الأساسية للدمقرطة المستمرة من مأسسة ودسترة... ) ومن ثم، تولد الحكامة كمفهوم متطور،متجدد،متعدد، يجمع كل السبل الكفيلة بالرفع من الأداء التدبيري في كل الميادين، وعلى شتى الأصعدة، كما تبرز على ضوء ذلك الدولة الديمقراطية "انتخابيا" كدولة للحكامة .
* تبلور الدولة الديمقراطية بالانتخابات، كدولة للديمقراطية المترنحة - نقصد بالترنح الديمقراطي، في اطار تحليل البراديغمات، تلك الرغبة المتوالية لدى أية دولة من الدول، في تحقيق بعض أسباب " الرخاء الديمقراطي " في إطار التعامل مع مفهوم الديمقراطية كامتياز وغياب النظرة إليه كحق- والتكريس " الخفيف" / " المحتشم " لبعض أوجه الدمقرطة.. وفي المقابل- وفي إطار ابراز الأبعاد الترنحية للديمقراطية – هناك صدمات عابرة وفجائية ... ترصد على مستوى الممارسة، تعري عن تجليات حقيقية لقصور مزمن، يمس مجمل تمظهرات الحياة الديمقراطية، حقوقيا، سياسيا،اقتصاديا، اجتماعيا ومؤسساتيا.- وهي ديمقراطية التباهي بمنجزات مترنحة ومنها " توفير الأرضية السلمية للممارسة السياسية العادية، والموطدة للمناخ الملائم لتداولية السلطة عبر تكريس النموذج الايجابي لآلية الانتخابات الدورية " والمفرزة وفق أنماط من الشفافية والمساواة، لأغلبية حاكمة، ناجمة عن مصداقية صناديق الاقتراع "- عكس خصائص الدولة الديمقراطية "انتخابيا"-ويتبلور السلوك " المترنح " لهذه الديمقراطية وعكس الادعاء الانجازي " السالف الذكر، في القيام- وبرؤية فوقية- بمقاسات نموذجية وفق إواليات الضبط والتحكم على مستوى التقطيع الانتخابي، وكذا الهيئات والمؤسسات المنبثقة عنها، والعمل على صياغة هذا الإطار، دون اللجوء إلى ميكانيزمات التشاور والتوافق بين كل الفرقاء، وبالتالي التحكم وبقوة في إحدى الشروط الضرورية للرفع من التمكين السياسي الإيجابي.
صفوة القول، إذا كانت الدولة الديمقراطية بالانتخابات تتصارع مع ذاتها لتظفر بجسد "الديمقراطية"، فإن الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، قد تمكنت فعلا من الظفر بروح "الديمقراطية". فشتان بين الثرى والثريا!
الإحالات:
(1)محمد الرضواني ، في الثقافة السياسية بالمغرب (الرباط: مطبعة المعارف الجديدة ، 2015 ) ، ص5.
محمد الرضواني ، في الثقافة السياسية بالمغرب (الرباط: مطبعة المعارف الجديدة ، 2015 ) ، ص5 محمد الرضواني ، في الثقافة السياسية بالمغرب (الرباط: مطبعة المعارف الجديدة ، 2015 ) ، ص5.. DR
(2)Philippe C. Schmitter, « Se déplaçant au Moyen-Orient et en Afrique du Nord <Transitologues> et <Consolidologues> sont-ils toujours assurés de voyager en toute sécurité ? », Traduit par Patrick Hutchinson , In :Annuaire de l’Afrique du Nord,1999, P28
من صحرائنا، وفي إحدى الغرف المظلمة، على الجانب الآخر من البيت، أضع هذه الكلمات بين يديك، لتفكر فيها مليا قبل أن تصدر أية أحكام..وقبل أن تخطو أولى خطواتك بعد أن تنتهي من قراءة هذا المقال، أطلق العنان لخيالك..بعيدا جدا..لترى مستقبلك في حدود سنوات الخمسينيات من القرن الواحد والعشرين..بين عالم تملؤه أنهارا من الدماء..وأطرافا مترامية من الجثث والأشلاء بعضها لأبنائك، وبعضها الآخر لجيرانك...وأخرى لمن معك في فلك واحد قتلوا بعضهم البعض..وبجهل أتقنوا هذه الفنون، لأن الجهل بإمكانه أن يصنع من الرذائل فضائل...أم عالم مزدهر الأفكار...متفتح العقول...رغم الإختلاف..إلا أن الجميع متسامحون...لا تشغلهم الرذائل عن الفضائل..لتسمو أخلاقهم..وترتفع هممهم..فترى أطفالا ينعمون بسلام العلم..وشيوخا – وأنت أحدهم – ترتفع قاماتهم بالحكمة...
ومابين زمننا هذا – 2016- و الزمن الذي سنسعى إلى رسمه على أذهاننا – 2050 – هو فارق قصير جدا، لا يتعدى الـ 34 سنة، أي ثلث القرن فقط، فهل هذا كاف لأن نردع العالم السلبي من أن يقطن في أعماقنا، ويعشش فوق رؤوسنا؟
شتان بين الواقع الذي نريده وبين ما هو موجود، فالتغيير ينبع من داخلنا نحن، فلا يمكن أن نلوم إسرائيل على الجرائم التي ترتكبها، ولا يمكن أن نلوم أمريكا على تقسيمنا..لأننا بضعفنا ومذلتنا..وجهلنا..أعطيناهم الموافقة على أن يفعلوا بنا هذا...فإن كانت هناك لائمة..فهي علينا..ولنا.. وليس لسوانا...
وعلى الأرجح – بالنسبة لي – أن نرسم من الخيال واقعا جديدا، وبدلا من أن نسبح وراء التغزل وشطحات من الإهانات الخلقية التي نتلقاها من الغرب، يجب أن نصيغ أفكارا تقلب عقولنا، وتعيد مسيرتا في ركب التاريخ؛ لهذا أود أن أقدم إليك هدية بسيطة، والهدية بطبعها ثمينة، وغير قابلة للمناقشة، بقدر ما هي قابلة للتأمل...
فالخيال اليوم هو حقيقة الغد..هو المستقبل...والخيال الإبداعي لا يكون إلا عن طريق القراءة الجيدة والواعية، والقراءة دون تفكير وتساؤلات فهي ليست بذات منفعة، والتفكير دون كتابته فلا فائدة منه تُرجى...لذلك سأترك لك فسحة تفكر فيها أيُّ العوالم تفضل... عالم المذلة والعبودية...أم عالم الكرامة والحرية...
في هذا العالم، وفي خضم كل هذه المشكلات، لماذا لا نسعى إلى تثقيف الشعوب، وبث روح الوعي بينهم، بدلا من حل مشاكلهم؟ ولماذا لا تكون القراءة هي أول تلك المشاريع التثقيفية؟ أليست مناهج التنمية البشرية هي المسؤولة عن هذه التوعية؟ فكيف نحاول بناء القدرات الفكرية المعطلة للإنسان البسيط وتحويلها إلى عملية حركية مستمرة؟ أليس التفكير هو العملية الملازمة للقراءة؟ فكيف يمكننا تكوين رغبة القراءة؟ وكيف نستفيد منها؟ وما علاقة القراءة بالكتابة؟ وهل بالضرورة أن يكون كل كاتب عظيم هو قارئ جيد قبل أن يكون كاتبا؟
القراءة وسيلة للرقي...وليست هواية
الكثير منا – بدءا بنفسي – يعتقد بأن القراءة هواية، مثلها مثل كل الهوايات التي نمارسها، نتعلمها ببساطة، وعندما لا تعجبنا نتركها ببساطة، وكأنها لعبة الشطرنج، ولكن المنطق يكشف لنا بأن القراءة هي عملية التحول داخل البُنى المجتمعية، من الركود إلى الحركة، ومن خارج دائرة التاريخ، إلى عمق التاريخ، لأن ما يدفعنا لهذا السلوك هو القضايا العالقة بجذورها داخل المجتمعات، والتي تعطل حركة التاريخ من..إلى، وبالتالي لا بد لأن تكون هناك حركة، يجب أن تسبقها بناء الطرق وتعبيدها، فيسير عليها المفكر قبل المثقف، والمثقف قبل البسيط...وهكذا..
واليوم؛ نحن بأشد الحاجة لهذه الحركة، بعد جمود دام لقرون طويلة، وفي هذا المقام سنسعى – على الأقل – إلى الكشف عن بعض الطرقات التي تؤدي بنا في نهايتها، إلى الخروج من جحيم الجهل إلى جنة الفكر ، و رسم منعطف تاريخي عملي، من خلال كشف الثغرات التي تعيقنا على هذا، ورفع الغطاء عن أم المصائب التي تنهال علينا، سوى كانت سياسية، أو إجتماعية وعسكرية، أو إقتصادية، لأن هذا يذكرني بالعمل الذي قامت على إثره جل الحضارات التي كانت راكدة مثل الحضارة اليونانية والمتمثلة في الحضارة الأوروبية اليوم، أو الحضارة الكونفشيوسية والمتمثلة في الصين اليوم ...، أو التي لم تكن أصلا في الوجود مثل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم... كل هذا كان سببه الأول هو الكتاب...فماذا يُمثل الكتاب بالنسبة لنا؟
الكتاب معلم وفيّ...وليس صديقاً
ليست الكتب المستلقية على الأرفف هي مجرد زينة للتباهي، أو هي علامة على الثقافة والرقي، إن لم تكن بواطنها في ذهنك، وتساؤلاتها تشغل تفكيرك، والقضايا المطروحة فيها ترهق كاهلك فلا تشتريها، لأن الكتب هي ماضي الأمم والحضارات، أو هي أفكار كبار العقول، أو هي حلول لقضايا إحدى المجتمعات، أو هي مستقبل غامض، والكتب بتصنيفاتها هي عقول تتكلم بصمت، لأن حكمتها لا تنادي البغال والحمير، بل تستدعي العقول الناشئة والمنيرة، والتي تفكر بصمت أيضا، وتتساءل دون إنقطاع، فالكتاب كما يصفه الجاحظ في قوله: " ...هو الذي إذا نظرت فيه، أطال متاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوّد بيانك، وفخّم ألفاظك، ونجّح نفسك، وعمّر صدرك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر، مالا تعرفه في أفواه الرجال في دهر إنه خير أنيس وجليس".
إذا كنت تقرأ الكتاب لتتباهى ببعض الأفكار، فلا تقرأ..وإذا كنت تشتري الكتب لتزين بها ركنا من أركان الغرفة فلا تدخل للمكتبات، وإذا كنت تقرأ للمتعة فإبحث عن غير هذا، إلا إذا كنت تقرأ لأن تجعل من القضايا والمشكلات التي تعيق حركة المجتمع نصب عينيك، فذلك هو الهدف الأسمى من إمساكك لكتاب، وقراءته، حتى تفيض أفكاره من جنبيه، ويصبح إضافة على ما تريد أن تضيفه لإحدى القضايا التي تهتم بها... لأن عقولنا تحتاج لتمرين يومي، حتى لا يصبح التفكير في شيء عملية روتينية، تموت حماستها ببطئ شديد دون أن تعيها... ويصبح العقل مقبرة لكل الأفكار العبقرية، كما هي عقولنا اليوم دون تفكير..
والعقل في طبيعته له وظيفة غير الوظيفة التي نستعملها في بث الفتن، فإما أن يكون إيجابي كما هي العقول التي تفكر في بناء الإنسانية، أو سلبي كما هي العقول التي تفكر في موت الإنسانية، والعقل عندنا – بكل صراحة - لا يرقى إلى مستوى المعدة، ومن ثمّ فإن الكتاب عندنا لا يرقى إلى مستوى الرغيف، وغذاء الأفكار لا يلقى من الإهتمام معشار ما يلقاه غذاء البطون، وأفكارنا عن الكون والحياة والإنسان محشوة بالخرافات والأوهام، وثقافتنا تعاني عقدة انفصام بين أفكار ميتة محنطة، لا زالت تحتفظ بحق الصدارة، ورغم عجزها عن فهم الواقع، وأفكار قاتلة، حملت جواز المرور لتأخذ مكانتها المرموقة عندنا، رغم غربتها وعجزها عن التكيف " كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار" إبراهيم – 14؛ ومناخنا الفكري لا يزال ملوثا بأنواع من الجراثيم ( الإيديولوجية) التي تفتك بعقولنا، دون أن يتاح لها من يكشف عنها اللثام، كما فعل باستور حين خلص البشرية من أذى الجراثيم (البيولوجية).
فلا بدّ لنا إزاء هذه الجراثيم من تكوين وتنمية جهاز المناعة الفكرية لدى قرائنا، وهذا الجهاز لا يتكون ولا ينمو إلا في جو القراءة الحرة، وتنمية عادة القراءة، فالقراءة نفسها هي الخريطة والبوصلة وهي طوق النجاة، وليس شيء مثل القراءة، يعلم التجاوز ويصحح الخطأ، فالقراءة تصحح أخطاءها، وتراجع نفسها، فتحذف ما فات أوانه، فلا تحمله آصاراً وأغلالاً، وتلفظ ما لا جدوى فيه ولا طائل تحته، فلا تضيع فيه وقتا ولا جهداً.
وما كانت عصورنا السابقة، حين كان العالم الإسلامي يحكم الأمم، وقائد الشعوب، وسيدهم، كان فيه الكتاب هو المعلم الأول بعد مشايخ العلم، فحملوا على أكتافهم أمانة الرقي للعالم الآخر – أوروبا- وصاحبها ترجمات للفكر اليوناني والروماني، حتى ظن بعضهم أن العصر اليوناني قد ولى من جديد، لأن الحركة العلمية /الفكرية جعلت الطلب والإستهلاك عمليتين متوازيتين، فكانت لكتب العلم مكانة عظيمة في نفوس علمائنا؛ فهي جليسهم الذي لا يُملّ، ورفيقهم في السفر، ومائدتهم في الجلسات، وأنيسهم في الخلوات، حتى قيل لإبن مبارك ذات مرة: يا أبا عبد الرحمن، لو خرجت فجلست مع أصحابك، قال: إني إذا كنت في المنزل جالست أًصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يعني النظر في الكتب، وقال شفيق بن إبراهيم البلخي: قلنا لإبن مبارك: إذا صليت معنا لمَ لا تجلس معنا؟ قال أذهب فأجلس مع التابعين والصحابة، قلنا: فأين التابعون والصحابة؟ قال: أذهب فأنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعمالهم؛ ما أصنع معكم؟ أنتم تجلسون تغتابون الناس؛ وكان الزهري – رحمه الله- قد جمع من الكتب شيئا عظيماً، وكان يلازمها ملازمة شديدة حتى أن زوجته قالت: " والله إن هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر"؛ وقيل لبعضهم: من يؤنسك؟ فضرب بيده إلى كتبه وقال: هذه؛ فقيل: من الناس؟ فقال: الذين فيها.
وكانوا – رحمهم الله- يقرؤون في جميع أحوالهم، وروى عن الحسن اللؤلؤي أنه قال: لقد غبرت لي أربعون عاما ما قمت ولا نمت إلا والكتاب على صدري، وكان بعضهم ينام والدفاتر حول فراشه ينظر فيها متى انتبه من نومه وقبل أن ينام؛ وكان الحافظ الخطيب البغدادي – رحمه الله- يمشي وفي يديه جزء يطالعه، كان بعض أهل العلم يشترط على من يدعوه أن يوفر له مكاناً في المجلس يضع فيه كتاباً ليقرأ فيه، وربما احترق طرف عمامة أحدهم بالسراج الذي يضعه أمامه للقراءة وهو لا يشعر حتى يصل ذلك إلى بعض شعره، وقال أبو العباس المبرد: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع في يده كتاب قرأه من أوله إلى آخره، وأيّ كتاب كان، وأما الفتح فكان يحمل الكتاب في خُفه فإذا قام من بين يدي المتوكل ليبول أو ليصلي أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الذي يريد ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه إلى أن يأخذ مجلسه؛ وأما إسماعيل بن إسحاق فإني ما دخلت عليه قط إلا وفي يده كتاب ينظر فيه أو يقلب الكتب لطلب كتاب ينظر فيه.
فالكتاب والواقع شيئان متلازمان، ولا ينفصلان، لأن الأول يحتوي على بعض القضايا التي تهمنا، والثاني هو مصدر تلك القضايا، فعندما نقرأ كتابا عن إنحراف الشباب، فهذا يعني بالضرورة أن الواقع يعج بهذا الإنحراف، ونظرتنا للواقع بعد القراءة تزيدنا عمقا في تلك القضية؛ لهذا – بالنسبة لي – فالكتاب هو المعلم الوفي، الذي يعلمنا دون مقابل وفي هذا يقول نيل جايمان: " تُعد الكتب طريقا للتواصل مع من سلف، وللتعلم منهم كيفية تشييد إنسانية ذات معرفة خلاقة لا تكرر نفسها، ساهمت بعض الحكايات في تطوير البلدان التي نشأت منها، وعمران الثقافات التي أنتجتها، وما زالت خالدة وتتداول حتى اليوم".
فماضي الأمم نطالعه في كتب التاريخ، وأفكارهم تسردها كتب الفلسفة، و حاضرنا هو نتاج لما سبقنا من الأفكار، أما مستقبلنا فهو ما تصنعه أيدينا نحن، وأفكاره هو نتيجة لمخرجات عقولنا...فأصنعوا مستقبلكم من الآن...الآن..وهذه هي فرصتكم الذهبية، قبل أن يمر عليها قطار الزمن..فنتأخر قرون أخرى كما تأخر من قبلنا...
والكتاب ليس مجرد أوراق مصطفة بين دفتين من الورق الخشن، بل هو نظرات من عالم لم نره من قبل، أو هو شعور بعالم تتملكنا فيه أمنيات أشبه بالمعجزات، حتى ننتهي منه – الكتاب - فنخرج للعالم الذي نحن فيه، لنشعر حقا بالغربة، وعدم الرضا لما نحن فيه من تخلف وجهل، ولن نتوافق معه إلا ونحن نسعى للتغيير من قواعده، وإعادة بناء أسسه بقوام، وهذا الغرض بحد ذاته أمر يستحق العناء، لأنه يبث فينا روحا جديدة تسعى إلى تعديل عالمنا وتغيير ما يحتاج للتغيير، وحذف الأساطير التي لا طائل منها، ليصبح عالمنا أفضل من العالم الذي نعيش فيه ألف ألف مرة، لأنه سيصبح مختلفا تماماً..
وما يهمنا الآن، وأولا - هو ما يجب أن نسارع به – هو أن الكتب الجيدة، ستعطينا معرفة جديدة حول الواقع الذي ولدت فيه، وبالأحرى ستقدم لنا حلولا لقضايا كانت من أكبر المشكلات في ذلك الزمن، لأن الأفكار بطبيعتها هي وليدة الزمن، فالكتب تعطينا مفاهيم عن الطبيعة والواقع، عن الذات والنفس والإنسان، فهي السلاح الذي يحمينا من عداوة الجهل والشر، والكتب هي التي تعلمنا أساليب الحماية، لأنها هي التي تزودنا بمعرفة مسبقة عن هذا الواقع البائس، ومن خلال المعرفة يمكننا أن نتحرر، ونتغلب على كل الصعوبات، ونحقق بفضلها النجاح، ونمضي قدما في ركب التاريخ، وننافس في عالم الحضارات، ونفرض أنفسنا في هذا الكون الإنساني، فلا تجعلوا من الكتب مجرد كتب...لأنها والله عقول ساكنة..فلنكافح لأجل هذا العالم الذي نطمح إليه كما يقول ج.ر.ر.تولكين بأنه : " وحدهم السجانون هم من يناضل ضد الخروج"، وأنا أقول لكم: " وحدهم المتحضرون هم من يناضلون لبناء حضارة...والقراءة وحدها هي التي تؤدي بنا للتحضّر..."
قم من مكانك الآن..وإبحث عن كتاب جيد على قدر حجم تفكيرك.. ويعلمك ما لم تكن تعلم...وكما يقول غيلبر تهايت: "الكُتب ليست أكوامًا من الورق الميت؛ إنها عقول تعيش على الأرفُف"، فإختر من العقول ما يسهل عليك فهم الواقع..
القراءة... مفهوم جديد للواقع
التطرق لتعريف القراءة ، هو أشبه بالغوص في أعماق البحار، فسطحه لا يحمل مثلما يحمله باطنه من سحر المرجان والأسماك، وتنوع في الحياة التي تختلف عن الحياة البرية، كذلك القراءة الواعية، فهي ليست تتبع الكلمات بمجرد العين، بل هي رموز ومفاتيح تمكننا من فهم العالم الذي يدور من حولنا، عن طريق تجارب بعض العقول المفكرة من الذين خاضوا غمار البحث، ودونوها بأقلامهم الزكية، وفي هذا سنحاول التدقيق في تعريف القراءة ليس من باب التعرف على القراءة فقط، بل من الباب الذي تعتبر فيه القراءة من اللوازم التي تفرض نفسها على بني البشر مثلما يفرض الغذاء نفسه من أجل نمو الجسد، وسد الجوع، فالعقل أيضا له من الحاجيات لتغذيته لا تكون إلا في القراءة، والواقع له من المشكلات لا تعالج إلا من جذورها، وفي هذا سنضع بدايةً تعريفا للقراءة حتى نرسم للقارئ أي أنواع القراءة التي نريد:
يقول عبد اللطيف الصوفي معرّفا هذا المصطلح بـ: " القراءة هي حب البحث، وتنمية العقل، بكل ما فيها من ارتباط بالثقافة والإبداع، أو من مباهج وجدانية، وإقبال تلقائي على العلم والمعرفة، وتزكية أوقات الفراغ بالنافع المفيد"
ويقدم لنا تعريفا آخر أدق من التعريف السابق فيقول بأنها: " تعد القراءة، منذ القدم، أهم ما يميز الإنسان من غيره من أفراد المجتمع، بل هي من أهم المعايير، التي تقاس بها المجتمعات، تقدما أو تخلفا، ولا نعني بالإنسان القارئ هنا، الذي يعرف القراءة والكتابة فحسب، بل الذي يحب القراءة، ويقبل تلقائيا عليها، بل يكاد يفضلها على طعامه وشرابه، لأنها غذاء عقله، ونور بصيرته، بها يعرف نفسه، ومن خلالها، يعيش محيطه، ويتفاعل معه بصورة واعية، وأخذا وعطاء، قبولا ورفضا".
فالقراءة هي عملية عقلية تشمل تفسير الرموز التي يتلقاها القارئ عن طريق عينيه، و تتطلب هذه الرموز فهم المعاني، كما تتطلب الربط بين الخبرة الشخصية و هذه المعاني، فالقراءة ليست عملية سهلة كما تظهر للوهلة الأولى، لكنها عملية تشترك في أدائها حواس و قوى و قابليات مختلفة عديدة، و لخبرة الفرد أيضاً و لمعارفه الأولية و لذكائه عمل لا يستهان به في القراءة، لأنها المرآة التي تعكس لنا واقعنا، وتنير دربنا، وبفضلها يستطيع العقل كمصنع، أن يولد أفكارا إبداعية جديدة، وحلولا لقضايا عالقة، كما تمكننا من الخروج من العبودية للطبيعة عن طريق فهمها، وإستيعاب درسها، وإخضاعها، خدمة للإنسان والإنسانية..
ولو تأملنا واقعنا الذي تخلو فيه مكتباته من القُرّاء، وتعج مجتمعاته بالمشاكل، لأقررنا فعلا أن غياب القراءة المثمرة هي أولى المشاكل التي يجب أن تعالج قبل أن نعالج مشكلة الحكم، أو الفساد، أو الحرية أو غيرها الكثير من القضايا، لأنها جميعا تندرج تحت شجرة الجهل.
للقراءة أهمية...أين تكمن؟
المجتمع القارئ هو المجتمع الذي يحكم العالم بقبضة من حديد، والمجتمع الذي يقرأ لا يستطيع حتى أن يعرف نفسه، ولا أن يعرف غيره، والقراءة هي التي تقول لنا: هنا وقف السلف من قبلكم، هنا وصل العالم من حولكم، من هنا يجب أن تبدؤوا؛ لكي لا تكرروا الجهود التي سبق أن بذلها الآخرون، ولا تعيدوا التجارب التي مروا بها، ولا ترتكبوا الأخطاء التي ارتكبوها.
فكيف نسعى إلى بناء مثل هذا المجتمع؟
لكي نجعل من مجتمعاتنا الإسلامية مجتمعات تتسابق إلى القراءة كما يتسابق الساسة إلى نهب ثروات الشعوب، نطرح ما طرحه بعض المفكرين الأمريكيين والكتاب والناشرين وأمناء المكتبات ورؤساء أقسام الثقافة والإرشاد في آخر صيف عام 1951م، عندما إجتمعوا في واشنطن، وكان الذي يعنيهم ويسيطر على تفكيرهم أن يجيبوا عن هذا السؤال: " لقد أصبحت القراءة في العصر الحديث أمراً حيويا لا يستطيع مجتمع أن يحيا بدونه...أصبحت اليوم حاجة ولم تعد ترفاً، فما الذي يمكن أن نفعله لنشجع الناس على القراءة، ونرغبهم بالإستزادة منها؟".
أما ما يطرحه العالم العربي، أو بالأحرى مفكرونا ومثقفونا إجتمعوا على دراسة المنظورات الواقعية والمثالية الغربية، بدلا من البحث في البنى المجتمعية الخاصة بنا، كانت لهم إنطلاقة تقليد أعمى، لأن عقولهم قد أعمتها المناصب السياسية، والشهرة والمال، فأصبح الباحث لا ينطق إلا بأفكار الغرب، ولا يتفوه لسانه إلا بالأعجمية، وعندما كنت طالبا في الجامعة، كان أغلب الأساتذة لا يتفوهون بإسم مُنظّر عربي، مثل إدوارد سعيد، أو مؤسس علم الإجتماع ابن خلدون، أو الماوردي وغيرهم الكثير ممن بحثوا ودأبوا في مجال علم الإجتماع والسياسة، وبدلا من ذلك كانت الأسماء التي تُلقى على مسامعي هي: آدم سميث، ميرشايمر، كينيث والتز، جوزيف ناي... هكذا كانت مناهجنا التربوية، وموادنا التعليمية، لأن ذواتنا العربية الإسلامية قد غيّبها المثقفين والمفكرين السُذَّج...
لهذا كانت تغيظني هذه الأصوات وهذه الألسن التي تتفوه بتلك الأسماء، فكانت أول فكرة تتراءى لي أن أضع مشروعا جديدا – على الأقل – يقوم بتوعية هؤلاء الشباب بأهمية تراثنا الإسلامي في واقعنا، لأن القراءة هي الوسيلة الأساسية للإتصال بين الأفراد والمجتمعات، فهي أداة الإنسان لكسب المعارف والتعلم، وهي أداة المجتمع للربط بين أفراده، وهي أداة البشرية للتعارف بين شعوبها مهما تفرقت أوطانهم وبين أجيالها مهما تباعدت أزمانهم، وأول ما يجب أن نقرأه هو تراثنا الإسلامي، من أجل تنقيته من شوائبه، ومعرفة ماضينا، ونستوعب من خلاله حاضرنا، حتى يتسنى لنا بناء مستقبلنا...
فإذا كان الكتاب – كما يقول عنه محمد عدنان سالم - هو الخزانة التي تحفظ الخبرات المتراكمة من الأجيال الماضية، فإن القراءة هي المفتاح الذي يتيح الإنتفاع بهذه الخزانة، وهي الوسيلة التي تمكن الخلف مهما كان قزما، أن يطل من فوق كتف السلف مهما كان عملاقا، ليشاهد كل ما شاهده السلف، وأشياء أخرى لم يدركها السلف ولم يشاهدوها، فتتفتح لهم على قدر قراءتهم رؤى جديدة ومفاهيم جديدة، ويضيفونها إلى خزانة معارفهم، ويُغنون بها أفكارهم، فتتطور حياتهم، ويتغلبون على مشكلاتهم، ويرتفع مستواهم، ويتقدمون على من سواهم..تلك هي سنة الله في المجتمعات البشرية: من يقرأ أكثر ينل أكثر، ويرتق أكثر، ورب العزة يقول في محكم تنزيله مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " – سورة العلق – وهذا ما يدل على أن من يقرأ أكثر يُكرم أكثر.
النقد...وسيلة للفهم والتعمُّق
النقد في حقيقته هو ثمرة القراءة الناضجة، التي توفر للقارئ ملكة نقدية تؤهله للتمييز بين نقاط القوة والضعف..بين العلم الزائف والصحيح..بين الحقيقة والوهم، والكشف عن التحيز والإدعاء، ولتمحيص الصحة والخطأ في الأفكار.
وينبغي للقارئ الناقد أن يكون قادراً على معرفة مقدار صحة النص، وهل يتطابق مع الواقع؟ وهل يعبر عنه؟ وهل ثمة ترابط بين عناصر الموضوع؟ وهل يتسم تبويبه بالمنهجية؟ أم تتخلله الثغرات والقفزات؟ وهل وفق الكاتب في عرض أفكاره؟ وما مدى إبداعه؟ وهل جاء بفكر جديد؟ أم كان يجتر أفكاره، أو يكرر أفكار الآخرين؟ وما مدى أمانته العلمية، وخاصة في الإقتباس ونقل النصوص؟
إن الدقة والعمق في فهم المادة المقروءة، والغوص في المعاني، واستشفاف المقاصد الكامنة وراء السطور، كل ذلك من المطالب الملقاة على عاتق القارئ الناضج، ولن يتيسر له ذلك إلا بوساطة (القراءة البطيئة) التي تتيح له التوقف عند بعض النصوص المستغلقة، والتعابير الغامضة، والتأمل فيها، كما تتيح له فرصة التمتع بنص شعري، أو أدبي، أُعجب ببلاغته وجماله، أو بفكرته الجديدة، فتراه يقف عنده، ويردده ليتذوقه، ويستمتع به، ويحفظه.
أما إن كان القارئ، يحقق نصاً تراثيا مخطوطاً، أو نصاً علمياً صعباً، فإنه إلى التأني والبطء في القراءة أحوج، إذ ربما اضطره النص إلى التوقف عند سطر واحد، أو كلمة واحدة، أياماً طوالاً، يراجع لأجلها العديد من المراجع، حتى يطمئن إلى صحة ما ذهب إليه، وسابقا كان لي أحد الأساتذة المولعين بالعلم، قد بحث عن كلمة في قصيدة شعرية لمدة تقارب الخمس سنوات، إلى أن حصل عليها وعلى قصتها.
وقل مثل ذلك في قراءة الدارس الذي يعكف على المواد المقروءة، يطيل فيها النظر، ويكرره، حتى يهضمها، ويعتصر خلاصاتها، ويربط بين أفكارها.
لذلك؛ خذ من الكتاب ما شئت، إنك تريد أن تقرأ ما يفيدك، فربما كنت ترغب أن تقرأ كتاباً بأكمله بإمعان، أو كنت تريد أن تأخذ عنه فكرة سريعة دون أن تهتم بالتفاصيل، أو كنت تريد أن تقرأ منه فصلا معينا أو فقرة تتعلق بموضوع معين، أو أن تبحث في ثناياه عن موضوع معين...التجربة هي التي تعلمك كيف تصل من الكتاب إلى ما تريد.
لأنه ليس لدينا وصفة طبية تحوّل عزوفك عن القراءة إلى شغف بها، وإعراضك عنها إلى إقبال عليها..فلا بدّ للخطوة الأولى من إرادة واستعداد، أما الإستعداد فهو موجود لدى كل إنسان بدافع من غريزة حب الإطلاع والمعرفة، وأما الإرادة فهذا شأنك.
واقعنا...عين الحكمة ومنبع الحقائق
عزيزي القارئ، أنظر في محيط أسرتك، في حدود مجتمعك الضيق؛ زملائك في الدراسة وأصدقاءك، جيرانك، في المجتمع الواسع؛ موظفين، تجاراً، مهنيين، ستجد أن (الكتاب)، والرغبة في القراءة، والشغف بالمطالعة، لا يشغل حيزاً من الإهتمام، بل قد لا يتعدى من يقرؤون مقالي هذا سوى بضعة من القراء يعدون على أصابع اليد، فضلاً عن أن يكونوا محوراً له، ولا يخطر في بال أحد، فضلاً عن أن يكون هاجساً يحركه، للبحث عن وسائل تحصيله.
ولا أظن إلا أنك تشاركني هذا الشعور، وأنت تبحث مثلي في محيطك القريب؛ عن عدد المهتمين بالقراءة؛ بين أبنائك، جيرانك، زملائك، أصدقائك؟ كم واحداً منهم يفكر، وهو يخرج من بيته في الصباح، حاملاً معه قائمة مستلزمات طعام اليوم من خضر ولحم وفاكهة مما يشتهون، كم واحداً منهم يفكر أن يضيف إلى قائمة مستلزمات غذاء الجسد، شيئاً من مستلزمات غذاء الفكر والروح؟ بالله عليك أجبني هل يبلغون عدد أصابع اليد الواحدة؟
بالطبع لا...لكن ماذا لو سعينا نحن بأن نبعث فيهم هذه الروح الشغوفة بحب المطالعة، وكشف الستار عن حقائق كانت مخفية بالنسبة لهم عن القراءة، من فوائدها وأهميتها وأهدافها.. ونعلمهم بأننا في أمس الحاجة إلى غذاء للعقل..بحاجة إلى أدب الأفكار...حتى نحقق تنمية حقيقية..تنمية العقول الراقية...
ولأننا لو أردنا أن ننظر إلى الموضوع من زاوية التنمية والإصلاح الإجتماعي، والإرتقاء في معارج المدينة والتحضر، سنرى عجز الأفكار عن النمو، نتيجة عجزها عن أن تكون في موضع التداول... قلة من المفكرين هم المبدعون...وكميات متناقضة من الكتب هي التي تصدر... وحفنة من القراء هي التي تتلقى..وقلة ضئيلة هي التي تنتقد، وتحمل الأفكار إلى الآخرين... فأية تنمية وأي إصلاح وأي ارتقاء ندعي بأننا قمنا بتحقيقه؟
خط الإنطلاق..من أين؟
تقول فرجينيا وولف: "...لا يوجد في المكتبة سوى كتُلٍ من الكتب، بالإضافة إلى ارتباك يحتشد في دواخلنا؛ روايات وقصائد، كتب تاريخ ومذكرات، كتب علمية وقواميس؛ كتب طُبعت بكل اللغات، وأصدرها رجال ينتمون لكل الأعراق والإثنيات والآراء، نراها تزاحم بعضها البعض على الرفوف؛ وفي الخارج ليس هناك سوى حمارٍ ينهق، ونساء يثرثرن عند الآبار، وثور يجر محرثة ما في حقل من الحقول، يا إلهي! من أين نبدأ؟ كيف يمكن لنا أن نرتب قراءتنا في هذه الأكوام المتعددة..وبذلك نستطيع أن نحصل على المتعة الأعمق والأعرض مما نقرأه؟..."
ربما لم تستطع فهم مقصدي من هذا المقطع الذي تسرده الروائية فرجينيا وولف، لهذا سأعيد الفقرة بطريقتي الخاصة، حتى يصبح المعنى في ذهنك متكاملا..
أعلم أنك تتساءل: من أين أبدأ؟ وأي كتاب يجب أن يكون أولا؟ وهل يمكنني فهم ما فيه؟ هل ننطلق من كتب الفلسفة أم كتب التاريخ أم الأدب؟ أيهم له فائدة أكبر؟ .. كل هذه الأسئلة لا تنفعنا، لأننا لسنا هنا بصدد التحصيل العلمي، ولا إختيار المجالات العلمية الأنسب، لأن كل العلوم مترابطة مثل بيت العنكبوت، لا ينفصل إحداها عن الآخر، وإلا سيصبح بيت العنكبوت به خلل...قراءة الكتب لا تحتاج إلى الإهتمام، بل تحتاج إلى همة عالية، وإلى إدراك تام، والسؤال الأهم هو: كيف نقرأ الكتب التي تساعدنا على حل مشكلاتنا في الواقع؟ وبطريقة أبسط: أيُّ الكتب التي ترتقي بنا نحو الأفق من أجل بناء مستقبل واعد؟
رسالتي إليك أمانة...لا تضيعها
في ختام هذا المقال، لا يسعني سوى تقديم نصيحة بسيطة، حتى تستطيع أن تضع خطوتك الأولى في عالم القراءة، وأعلم أنك تتساءل كيف نختار الكتاب المناسب؟
إختيار الكتب التي تتطابق مع تفكيرنا وإهتمامنا شيء بغاية البساطة، والإجابة هي التي كما قدمها سابقا الأديب المسرحي البريطاني برنارد شو، حينما سأله أحد الناشئة، أنه لكي تعرف إهتمامتك، يجب أن تقرأ موسوعة فكرية، فإن وجدت مجالا يثير إهتمامك فإنطلق بالبحث والتعمق فيه، حتى تصل إلى مبتغاك، وتحقق غايتك النبيلة في إثارة المشكلات الكامنة، أو المساهمة في صنع حلول لها.
ستقول بأن هذا وحده لا يكفي، لأنك لا تعلم كيف تقرأ كتابا، وتسألني كيف نقرأ الكتاب؟
سبق وأن قدمت لنا فرجينيا وولف إجابة راقية عن هذا السؤال - كيف نقرأ كتاباً كما يجب؟ - وتجيب عليه بالآتي: " ...حتى لو استطعت الإجابة عن ذلك السؤال بنفسي، سيظل الجواب محصوراً بي وليس بكم؛ النصيحة الوحيدة التي يستطيع أن يسديها شخص لآخر حول القراءة هي أن لا يتبع أي نصيحة؛ هي أن تتبع حواسك، أن تستخدم عقلك، وأن تتوصل إلى استنتاجاتك الخاصة".
في الغالب؛ جميعنا نأتي إلى الكتب أول مرة ونحن بعقول مقسمة وضبابية، نبحث وقتها عن الرواية التي حدثت في الواقع، وعن الشعر الكاذب، وعن السيرة الذاتية المغرية، وعن كتب التاريخ التي تؤجج كبريائنا؛ إذا استطعنا إبعاد كل هذه التصورات المسبقة عندما نقرأ، فإن هذه ستكون بداية مثيرة للإعجاب؛ لا تُمْلِ على الكاتب ما يفعله، في محاولة منك لأن تصبح هو؛ كن ذلك الزميل الذي يسانده ويتواطئ معه؛ إذا تراجعت عن ذلك، وأصدرت حكماً مُسبقاً في البداية، ستمنع نفسك من الحصول على أي فائدة دسمة مما تقرأه؛ لكن إن فتحت عقلك بقدر ما تستطيع، ثمة علامات وتلميحات تسبق صفاءً غير محسوس، وتصدر من انعطافات الجمل الأولى في الكتاب لترمي بك إلى وجود شخص آخر مختلف؛ أقحم نفسك أكثر فيما وجدت نفسك، وانغمس في هذا الأمر، لتجد بأن الكاتب العظيم يعطيك، أو يحاول أن يعطيك شيئاً أوضح؛ لأنه يحاول أن يقدم لك خلاصة فكره في مجموعة من الأفكار، قد إكتسبها بعناء من تجربته الشخصية، فهو بذلك يوفر علينا الجهد والوقت، لننطلق نحن أيضا في تكوين ملكة أفكارنا، والبحث عن حلول لكل مشاكلنا التي تقع على عاتقنا، وهذا التفكير الإيجابي، والفكر المستنير هو ما سنتكلم عليه في المقال السابق، فكن على إستعداد، وهيء عقلك، ومرّنه جيدا حتى يصبح عقلا متفتحا..لا عقلا مغلقا..
ها أنا الآن أُنهي معك جلستي الأولى، وأختم حواري عن القراءة، لأجمع أفكاري في حقيبتي العقلية، وأرحل، بحثا عن الجزء الثاني من المقال، والمتمثل في " المفكر الحكيم"، ثم يليه الجزء الثالث " الكاتب العظيم"..وذلك وفق ما طرحته في العنوان الكبير أعلى هذه الفقرات..
لذا؛ كن متأهبا وذوهمة عالية، لأنني لن أتوقف عن وخزك بهذه الأفكار، أو لأنني أودك أن ترتقي من هذا القاع المزدحم بالأفكار الساذجة...لن أتوقف حتى تتراءى لي بوادر الإستجابة منك، للبدئ بصنع هذا العالم الذي نطمح إليه، وأعلم جيدا عزيزي القارئ أنني لا أكتب – أبدا – لأصحاب العقول المغلقة التي تضع التقاليد فوق التطور، ويتهربون من القضايا الشائكة خوفا من سلطان جائر، أو سجنا غابر، وتستسلم للخرافات التي ينثرها كتاب اليوم وخطباء المنابر، والذين يعتقدون في الفقر زهدا، وفي الذل عبادة، وفي الخيانة صلاة وتقرب من الله عز وجل، فأنا أكتب لتلك العقول التي ترحب بالأفكار النهضوية..التحررية .. التنويرية، والتي تجترئ على تخطيط المستقبل، وتضع البرامج للحياة، وتدقق في حساباتها، لأنني أعلم يقينا بأن هذا ما أراده الله للإسلام والمسلمين، لأن الآخرة ليست بمنقطعة عن الدنيا، والدنيا هي الباب الذي ندخل به للآخرة، لهذا يقول الله عز وجل في سورة القصص: " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" - (77(- ولا تنس نصيبك من الدنيا، وهؤلاء الذين يصرخون بأعلى أصواتهم، ويتباكون، ويدعون إلى الآخرة، هم سبب مصائبنا، لأن قلوبهم ممتلئة بالدنيا، فأرادوا أن يمتلكوها كما إمتلكها قارون سابقا، فغلفوا أدمغتكم بالآخرة...ووجهوكم حسب نيتكم، فتركوا الجهل يتفشى بينكم كداء الطاعون، حتى أصاب من أصاب، وماتت الأمة بين أيدي هؤلاء الخونة، فراجعوا تاريخكم، وإبحثوا في تراثكم، وأطلبوا العلم لله، وليس لشيء غيره..وأنا على يقين بأن العلم سيحرركم من بؤسكم، وينصركم على ذلكم، ويقربكم من الله..بمعرفة وإدراك تام.
وهؤلاء..أصحاب العقول المغلقة لا يقبلون معادلة المنطق التي يتقبلها العقل بأريحية تامة، لأنهم إرتضوا لأنفسهم الجهل، ووضعوا الجلباب واللحية والعطور...بما فيها من راحة وترفيه...فوق العقل/الفكر...هؤلاء هم علة تأخرنا.
ويؤسفني جدا أن أختم قولي بهذا، لأنني أعلم يقينا أيضا أن الكاتب عندما يكون منفردا في كفاحه، سيكون أشبه بالفدائي في ساحة المعركة، ولكن لا يزال الأمل يدق أبوابي، لأنني أشعر بوجود الله بجانبي، فلن يضيع عبدا.كانت نيته لله خالصة..
قائمة المراجع:
راضي النماصي، داخل المكتبة خارج العالم: نصوص عالمية حول القراءة، أثر للنشر والتوزيع، السعودية، 2016
محمد عدنان سالم، القراءة أولا.
محمد صالح المنجد، كيف تقرأ كتابا، دار الوطن، الرياض، 1995
طاهري فاطمة، ظاهرة العزوف عن القراءة، مركز جيل البحث العلمي، نقلا عن:
http://jilrc.com
منذ عقدين من الزمان تقوم سلسلة تقارير اليونسكو عن العلوم برسم خرائط العلوم والتكنولوجيا والابتكار في جميع أنحاء العالم ومنها البلاد العربية كل خمس سنوات وبشكل منتظم. ونظراً لأن العلوم والتكنولوجيا والابتكار لا تتطور في فراغ، فإن أحدث تقرير لليونسكو حال العلوم حتى عام 2030م، والذى تم الاحتفال بصدوره فى يونيو 2016م لخص تطور العلوم عالمياً فى الفترة من عام 2010 حتى عام 2030م وذلك على خلفية الاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية والجيوسياسية والبيئية والتي ساعدت على تشكيل السياسة والحوكمة المعاصرة الخاصة بالعلوم والتكنولوجيا والابتكار.
وقد ساهم أكثر من 50 خبيراً في هذا التقرير، حيث قام كل منهم بتغطية الإقليم أو البلد الذي يتنمون إليه. ومن الجدير بالذكر أن التقرير الخامس يتميز بكونه قادراً على التركيز على الاتجاهات طويلة الأمد، بدلاً من التعمق في التقلبات السنوية قصيرة الأمد والتي نادراً ما تضيف قيمة ملموسة للسياسات العلمية أو لمؤشرات العلم والتكنولوجيا.
وقد ضم هذا التقرير إحصائيات محدثة وتحليلات للظروف التي شهدتها كل دولة بالمنطقة بعد ثورات الربيع العربي، رابطًا إياها بالوضع الاقتصادي، مع تحليل مؤشرات النمو أو التراجع في البحث العلمي بكل بلد؛ فرصد التقرير كذلك الاستراتيجات الجديدة على المستوى الوطني والإقليمي، ومنها الاستراتيجية العربية للبحث العلمي والتقني والابتكار، المصادَق عليها من طرف وزراء التعليم العالي والبحث العلمي العرب في مارس 2014 بالرياض.
ووفقا للتقرير باتت معظم البلدان، بصرف النظر عن مستوى دخلها، تراهن على البحوث والابتكار لتحقيق نمو اقتصادي مستدام والنهوض بالتنمية الوطنية.، ويظهِر تقرير اليونسكو عن العلوم أن البحوث باتت تمثل عاملاً مسرّعاً للتنمية الاقتصادية وأداةً بالغة الأهمية في بناء مجتمعات أكثر استدامةً وأكثر احتراماً لكوكب الأرض، في آن واحد".
واقع حال العلوم والتكنولوجيا فى الوطن العربي:
كشف تقرير "حال العلوم حتى عام 2030م" ، عن تراجع عام للعلوم على مستوى الدول العربية، وتعود أهمية ذلك التقرير إلى أنه أول تقرير يرصد حال العلوم فى الوطن العربي فى أعقاب ثورات الربيع العربي، وما شهدته المنطقة من أزمات وصراعات وحروب، وتغيرات غيرت وجه الوطن العربى ومعالمه.
فقد شهدت الأعوام الخمس الماضية تغييرات جيوسياسية هائلة كان لها تداعيات ملموسة على العلم والتكنولوجيا. وعلى سبيل المثال لا الحصر: الربيع العربي عام 2011م ؛ والاتفاق النووي مع ايران عام 2015م ؛ وإنشاء رابطة دول جنوب شرق آسيا عام 2015م، إضافة إلى تراجع أسعار النفط الخام والتغيرات الاقتصادية والسياسية على مستوى دول العالم.
وكان لهذه التغيرات آثار وتداعيات مؤثرة. فى حال العلوم والتكنولوجيا فى الوطن العربي ففي مصر، وعلى سبيل المثال، حدث تغير جذري في سياسة العلوم والتكنولوجيا والابتكار منذ بداية أحداث الربيع العربي،فبدأت الحكومات الجديدة المتعاقبة فى السعي لتحقيق اقتصاد المعرفة والنظر إليه على إنه أفضل السبل للحصول على قاطرة نمو فعال. فنص دستور 2014م على قيام الدولة بتخصيص 1% من إجمالي الناتج المحلي على البحث والتطوير R&D على أن تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمي وتشجع مؤسساتها العلمية كوسيلة نحو تحقيق السيادة الوطنية وبناء اقتصاد المعرفة الذي يدعم الباحثين والمخترعين.
كما جلب الربيع العربي في تونس المزيد من الحرية الأكاديمية، وسهَّل العلاقات الدولية. لكن على الجانب الآخر تواجه دول عربية مثل ليبيا واليمن حركات تمرد قتالية، مما يقلل الأمل في الإحياء السريع للعلوم والتكنولوجيا. كما تقع سوريا في خضم حرب أهلية.
وقد قدمت الحدود السياسية السهل اختراقها والناتجة عن الاضطرابات السياسية في الربيع العربي الفرصة لجماعات إرهابية انتهازية للإزدهار. حيث لا تشكل هذه الميليشيات شديدة العنف تهديداً للاستقرار السياسي فقط، ولكنها أيضاً تقوّض التطلعات الوطنية نحو اقتصاد المعرفة، لأنها بطبيعتها معادية للمعرفة بشكل عام، وضد تعليم الفتيات والنساء على وجه الخصوص. وتتمدد مخالب هذا الظلامية الآن جنوباً حتى نيجيريا وكينيا.
كما أصبحت الطاقة أحد الشواغل الرئيسية للحكومات في كل مكان، بما في ذلك الاقتصادات المعتمدة على البترول مثل الجزائر والمملكة العربية السعودية اللتان تستثمران الآن في مجال الطاقة الشمسية لتنويع مصادر الطاقة لديهما.
كما سعى عدد من الدول العربية إلى تطوير مدن ذكية مستقبلية فائقة الاتصالات والمدن الخضراء والتى تستخدم أحدث التقنيات لتحسين الكفاءة في استخدام المياه والطاقة والبناء والنقل...إلخ. ومن هذه الدول المغرب والإمارات العربية المتحدة.
وأثنى التقرير على إنشاء عدد من البلدان العربية - من بينها المغرب ومصر ولبنان- مراصدَ لقياس مؤشرات النمو والابتكار، وحث باقي الدول على أن تحذو الحذو ذاته، وأن تربط هذه المراصد المحلية بعضها ببعض.
ولم يُغفل التقرير مساهمة العنصر النسوي في قاطرة البحث العلمي العربي. فنسبة الباحثات في الدول العربية تبلغ 37%، وهي تزيد على النسبة المسجلة في الاتحاد الأوروبي وهي 33%.
مؤشرات تراجع العلوم فى البلاد العربية:
ورصد التقرير مؤشرات لتراجع العلوم فى البلاد العربية، والتى من أبرزها عزوف الطلاب العرب عن دراسة العلوم الأساسية والتطبيقية وتوجه ما بين 60 و70 في المئة من الطلاب إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، وأن تدريس العلوم فى المدارس والجامعات العربية لا يتم بطريقة ممتعة وقائمة على التساؤل والبحث والتقصى والاكتشاف، وبالمجمل فإن جودة تدريس العلوم ليست على المستوى المنشود لأنها لا تعد من الأولويات ، إضافة إلى عدم وجود تركيز كاف على الأولويات والاستراتيجيات البحثية، وعدم كفاية التمويل لتحقيق الأهداف البحثية، وقلة الوعي بأهمية البحث العلمي الجيد، إضافة إلى تشبيك غير كاف بين الباحثين، وجهود تعاونية محدودة بين دول المنطقة، وهجرة كثيفة للعقول.
وبالرغم من إن أغلب الدول العربية لها استراتيجياتها الخاصة فى تطوير العلوم والتكنولوجيا، إلا أنها تظل حبيسة الأدراج والخطابات الإنشائية في افتتاحيات المؤتمرات العلمية.
وهذا أدى بدوره إلى هجرة للكفاءات العلمية والبحثية من الوطن العربي؛ إذ رصد التقرير ارتفاعًا ملحوظًا لمعدلات هجرة العقول خلال السنوات الأخيرة في العالم العربي، كما أكد معدو التقرير أنهم ”وجدوا صعوبة في جمع بعض البيانات؛ نظرًا لتحفظ كثير من الدول عليها، ومن بينها الأعداد الفعلية للعقول المهاجرة“.
أسباب تراجع العلوم فى الوطن العربي :
أوضح التقرير أنه من أبرز أسباب تراجع العلوم فى الوطن العربى يعود إلى تأجج الصراعات والثورات خلال الأعوام القليلة المنصرمة، والضغوط المتصاعدة على الدول العربية، وخاصة تلك المتعلقة بالأمن ومكافحة الإرهاب، مما حفز حكومات هذه الدول على زيادة الإنفاق العسكري والتسليح، بدلاً من إنفاقها على البحوث والتنمية. وبالأرقام، أشار التقرير إلى هذه الزيادة التي بلغت حوالي 4% منذ عام 2013، وهو ما يقدر بنحو 150 مليار دولار أمريكي، ففي المملكة العربية السعودية وحدها زاد بمعدل 14%، أي ما يقارب 67 مليار دولار، متخطية بذلك المملكة المتحدة واليابان وفرنسا، لتصبح رابع أعلى دولة في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة والصين وروسيا.
ورصد التقرير توجه بعض الدول العربية إلى تحديد نسبة واضحة للإنفاق الحكومي عليه في دستورها، وهي ظاهرة مهمة شهدتها مصر والعراق وليبيا وغيرها؛ لكن بالرغم تعهد الحكومات برفع حصة البحث العلمي إلى 1% من الناتج المحلي الإجمالي منذ 25 عامًا، فلم تلتزم أي دولة عربية واحدة بالوصول لهذا الهدف، وفق ما أشار التقرير.
توجهات الحل وتحسين الوضع الراهن للعلوم فى الوطن العربي:
هناك ضرورة ملحة لرصد الأدوات التنفيذية اللازمة لتنفيذ الاستراتيجيات الوطنية للعلوم للبلاد العربية من دعم مالي وإجرائي؛ لتطبيقها على أرض الواقع، والإفادة فى ذلك من خبرات الدول المختلفة فقد شهدت إيران حالة ازدهار اقتصادي تزامنت مع قرار الدولة التحول إلى اقتصاد المعرفة متمثلاً في "رؤية 2025" التي تم إقرارها في 2005، وهي استراتيجية ترسم الطريق لجعل إيران الاقتصاد الأقوى في المنطقة، والثاني عشر على مستوى العالم، ورصدت الحكومة لتحقيق ذلك مبلغ 3.7 تريليونات دولار أمريكي، يوجه الجزء الأكبر منه نحو دعم الاستثمار في البحث والتنمية والشركات المرتكزة على المعرفة وتسويق البحوث العلمية.
كما يجب أن تجسير الفجوة القائمة بين أصحاب القرار والباحثين، وكذلك بين المجتمع والقطاع الخاص، من خلال تطوير آليات للتواصل بينهم، والاعتماد على نماذج ناجحة من العلماء الشباب، إضافة إلى الحاجة إلى بناء الكتلة الحرجة من العمالة الفنية اللازمة والارتقاء بالتعليم، وتوفير المنح للباحثين والموهوبين للدراسة بالجامعات والمراكز البحثية المتقدمة، وكذلك سد الفجوة فيما يخص الاستثمار في التعليم والبحوث، وضرورة سعى الدول لجذب المواهب فى توجيه الاقتصاد المعرفي مما يحسن مواقعها التنافسية على المستوى العالمي.
وأوصى التقرير بإشراك القطاع الخاص في العملية البحثية، وأورد أمثلة ناجحة لذلك، حيث نجح قطاع الاتصالات في المغرب، من خلال إقناع شركات الاتصالات المغربية بالتنازل عن 0.25% من عائداتها، في تمويل نحو 80% من إجمالي المشروعات البحثية العامة في مجال الاتصالات.
من منا لم يكن قد شعر بالبهجة وهو يستيقظ على تغريد طائر أو على هديل يمامة صغيرة حطّت بالقرب من نافذته؟...
تغريد بهيج وهديل عذب رقيق يجعلنا نشعر بالسعادة ونستقبل يومنا بالتفاؤل؟ ...
أو أننا قد نجده أحياناً هديلاً حزيناً يجعلنا نشعر بتأجّج ما لدينا من مشاعر الحزن والحنين...
ومن منا لا يذكر بأن الحمامة المُباركة كانت ورفيقاتها ،بوحي من الله تعالى، من بنت عشاً على مدخل غار حرّاء لكي تحمي سيدنا رسول الله من غدر المشركين...
تلك اليمامات التي تُسبّح عظمة الله تعالى في ملكوته، بهديلها المُحبب اللطيف البهيج والتي تشكر خالقها على نعمة الحريّة.
تلك اليمامات التي نراها تتهادى في ساحات الجوامع والكنائس دون خوف لكي تلتقط ما يرميه لها الزائرون وكأنها تعلم بأنها في تلك الأماكن المقدسة لابدّ أن تكون بأمان...
لقد ذكر صاحب النجوم الزاهرة في تعريف الفروسية: أنها نوع آخر غير الشجاعة والإقدام، فالشجاع هو الذي يلقى غريمه بقوة جنان، وفارس الخيل هو الرجل الذي يُحسن تسريح فرسه وسلاحه، وتدبير ذلك كله، بحيث إنه يسير في ذلك على القوانين المقررة المعروفة بين أرباب هذا الشأن. ويُذكر أيضًا أن الفروسية أو الفروسة أو الفراسة: هي الحذق بركوب الخيل وأمرها. هذا ويُقال أن أصل الفروسية هو الثبات على الفرس العُريّ - أي الفرس العاري الغير مُسرج.
ويُذكر أيضًا أن أصل الفروسية وكمالها هو حفظ العنان، ونظر الفارس أمام فرسه وحيث يضع يديه، وتعهده لآلته من سرجه ولجامه، ويُقصِّر ما يحتاج إلى تقصير ويُضيِّق ما يحتاج إلى تضييقيه، ويطوِّل ما يحتاج إلى تطويله، كل ذلك يفعله بوزن.
وكانت الفروسية في العصور الإسلامية هي مطمع أنظار الشباب إذ تستهوى قلوبهم لما فيها من ألوان الشجاعة لذا مارسوها واتخذوا لها زيًا خاصاً، وتدربوا على استعمال السلاح كالضرب بالسيف أو الرماح أو الرمي عن القسي بالنبل، وغيرها من هذه الأمور.
وبشكل عام فإن المسلمين كانوا يعتمدون على الخيل اعتمادًا أساسياً في شتى مجالات الحياة، بجانب باقي أنواع الدواب وأجناسها (كالبغال والحمير)، ومن أهم هذه المجالات الجهاد في سبيل الله (الحروب والمعارك)، وكوسيلة للنقل والمواصلات، وفي أعمال الزراعة والصناعة، بالإضافة إلى استعمالها في الصيد، وكذلك استخدامها في القيام بأمور الرياضة والسباقات والفروسية، مع الاعتماد عليها كوسيلة للتسلية وهزل الفرسان، مثل القيام بالألعاب المختلفة كلعبة الكرة والصولجان.
ولذلك فقد لزم الأمر القيام بتدريب وتربية وتأديب وتعليم الخيول لإعدادها وتجهيزها لكي تكون صالحة لما سبق ذكره بالأعلى وعلى الأخص في أمور الجهاد في سبيل الله، والسباقات، والصيد والطرد، وممارسة بعض الألعاب مثل لعبة الكرة والصولجان، وجميع هذه الأمور تندرج تحت مفهوم الفروسية بمدلولها الواسع الذي يشمل معظم الأعمال التي يقوم بها الفارس وهو يمتطى فرسه.
الصفحة 36 من 432