في اجتماع تناصف فيه الضجيج مع الهدوء ، وانزوت أضواء المنبر تحت ألسنة المنادين ، قرر مجلس الأمناء بأغلبية عضو واحد بأنهم سيعاقبونه شر عقاب ، لملموا أوراقهم المختلفة وسجلاتهم ، وأهملوا عن عمد ما قدمه أحدهم في اقتراح مضاد " إنه الأنسب لنا ، ويخدمنا بشكل غير مباشر.."
(1)
كنت قد أدمنتُ النوم علي ظهري .. النوم فوق سريري ..
وسريري قائمٌ وسط غرفتي .. أنا امتلك سريراً أنام عليه وغرفةً تأويني .
لي صديقان من عالم الحيوان : كلب وهرَّة . كلبي الوفي يحميني من اللصوص ، يقبع أمام باب غرفتي ويظل الليل ساهراً ، وقطتي الشقيَّة الجميلة تلازمني ، تمسح رأسها الناعم بصدغي وهي تموء ، تنام بحضني وأنا أغفو علي همس أنفاسها ، وكنت أدمن ، أيضاً ، التطلع لسقف غرفتي ساعات وساعات ، وكان عقلي يدور ويعمل مفكراً .. لا أدري كم من الوقت ؟
عاد إبراهيم الفقي إلى المنزل آخر النهار وقد هده التعب , أي منزل ؟! غرفة وحيدة تطل على فناء خال إلا من طرمبة مياه زعراء الذيل , فقد كسر الأولاد يدها من زمن , فبقيت على حالها , فسموها " الزعراء" وشجرة توت لا تثمر , ألقى نظرة على الغرفة فلم يلق سوى الصمت , أدرك أن الأولاد ذهبوا إلى أمهم "عسرانة" في دار أبيها ـ رحمة الله عليه ـ وكان قد حذرهم في الصباح من الذهاب إليها , فلابد له من أن يذلها بالأولاد , فتحرم من رؤيتهم , ومع ذلك شعر في أعماق ذاته بالراحة لعصيانهم أمره , ماذا يقدم لهم لو طلبوا طعاما أو شرابا , ها هو يعود كما خرج , ألقى بالفأس والمقطف إلى الأرض واتجه إلى "مشنة" الخبز , فعثر بالكاد على لقيمات صغيرة مقددة تفوح منها رائحة عفن , أخذها في كفيه الكبيرين وغسلها بالماء فلانت قليلا وصارت مقبولة , أخذ يأكل وهو يردد بينه وبين نفسه دون صوت وكأنه يخشى أن يسمعه أحد : " كده يا عسرانة تهون عليك العشرة " لم تكن المرة الأولى التي تغيب فيها عسرانة عن المنزل غاضبة إلى بيت أبيها , يوم والثاني وترجع وكأن شيئا لم يكن لكن الغيبة طالت هذه المرة يا عسرانة .
اسمعْ ما أحكيهِ الآنْ
فأنا فيلٌ عاشَ سنينَ كثيرهْ
ورأيتُ كثيراً منْ أيّامِ البهجةِ
وكثيراً منْ أيَّامِ الحرمانْ
أحكي لكمُ الآنْ
ما مرَّ بنا في العامِ الماضي
قبلَ وأثناءَ الفيضانْ
***
في العامِ الماضي جفَّ النَّهْرْ
مات الزرعُ
وجفَّ الضَّرْعْ
قبل ساعتين من رفع الستار عن بداية عرض مسرحية "الجريمة الكبرى" وصل الجميع.
ارتكن الممثلون في الطرقات الضيقة بين جنبات الكواليس، يقبضون على مُزق من أوراق النص، يراجعون أدوارهم، انشغل مهندس الإضاءة في اختيار الكشافات، وقد نثرها بحيث لا تسقط إضاءة مباشرة البتة على شخوص المسرحية، انهمك المخرج في اللا شيء، كان يرتطم في الأشياء والناس، دون وجهة محددة، ربما كان أهم إنجاز يشغل الجميع، هو مهمة مهندس الديكور .. أن ينجح في إغراق السفينة، فكان عليه أن يطمئن على إجراءاته بحيث يتم الغرق في أقل الخطوات وعلى مهل وبأمان كامل .. وهي تعليمات المخرج وتحذيراته أيضاً.
ديكُ قتالٍ كان يتنقَّلُ به صاحِبُهُ بين القرى ، لملاقاة ديوكها ، ورِبْحِ بعض المال ، يشتري به الرجلُ طعاماً لكليهما .
كان صاحبُ الدِّيك حريصاً على شيئين أساسيين من أجل انتصار ديكه ، الأمرُ الأول هو الغِذاءُ الجيدُ للدِّيك ، و يتألَّفُ بشكلٍ أساسي من اللحومِ و الحلويات ، بهدف المحافظة على قوة العضلات و الطاقة البديلة لتلك التي يصرفها الديك من نطٍّ وفطٍّ ، ونقرِ عيون أعدائه ، أو بقر حويصلات غذائهم .
أما الأمر الآخر فهو التَّشجيع أثناء المعركةِ ، من صياح و تصفيق و رقص وحركات تأخذ منه جهداً يضاهي الجهد الذي يبذله الديك نفسه .
كل صباح يستقيظ " حمادة" على صوت عم " حمامة" الذي يأتى كل يوم إلى شارعهم ليحقق لهم أحلامهم مهما كانت كبيرة أو صغيرة . ينهض "حماده" من فراشه مسرعا نحو النافذة المطلة على الشارع ... ينفض عن عينيه لُباب النوم بفركهما بقوة ثم يجلس مستمتعاً برؤية عم " حمامة" ومن حوله أطفال الشارع وأطفال الشوارع المجاورة يشترون منه أحلامهم الخضراء بقروشهم القليلة التي تعينه على شظف الحياة وتحميه هو وأطفاله الصغار من أهوال الدهر ونوائبه. وجوه الأطفال دائما بشوشة وتعلوها مسحة من الفرح العارم كلما حقق عم " حمامة" حلماً من أحلامهم ، الأطفال تستريح كثيراً لعم " حمامة " ويسعدون كثيراً بالوقت الذي يقضونه معه فهو رجل طيب القلب ... نقي السريرة ... ووجهه رائق وملامحه تغرف من لون طمي النيل بغير حساب.