انتزعني أبى من دفء الفراش , وقال في لهجة حازمة :
- غير ملابسك , واذهب مع جدك هاشم .. الدور عليك اليوم
فركت عيني وتحسست الأشياء من حولي , كأنني في حلم لم أصحو منه بعد وقلت :
- هل الفجر وجب ؟
لم أسمع ردا , ولكنني بعد قليل سمعت صوت أبى في حظيرة المواشي وهو يقول لأمي , التى تطلب منه أن يتركني أنام , لأنني ما زلت صغيرا , والجو شديد البرودة
منذ أربع سنوات جرى تعيين عدد من حملة الشهادات الإعدادية والثانوية والجامعية في بعض المؤسسات وفق نظام مؤقت معمول به يسمى التعيين (عالفاتورة)، بعد ستة أشهر انتقل بعض العاملين إلى نظام (العقد)،، وبعد عام وبضعة أشهر، انتقل آخرون إلى جدول العقود.
لم أكن أعلم مدى جاذبية الاستبداد حتى جرّبته .
كنت أعاني من حالة الديمقراطية الشائعة في البيت ، فأتلقّى الشكاوى بصدر رحب ، وأكظم غيظي حتى عندما يقدم الأولاد شكواهم فأحتاج إلى كثير من الصبر والوقت كي أقدم لهم حججاً مقبولة تفسّر أسباب توجيهاتي لهم.
وإذا تخاصم الابنان ، كان عليّ أن أترك أعمالي وأصغي إلى وجهة نظر كل منهما لأحكم بالعدل بينهما ، فألوم المخطئ وأعيد الحق إلى المظلوم .
مرت أسابيع على بداية العام الدراسي, ولم تلتحق خولة الطفلة المتفوقة بمقاعد الدراسة, وهذا ما أقلق زميلها وائل في القسم, إذ لا يحلو له الدرس دونها لكثرة التنافس بينهما في البحوث والمعلومات.
خرج من المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي حيث ينتظره أباه, ركب السيارة وبدا شاردًا. فجأة شاهد طيف فتاة على حافة الطريق السريع حاملة بيديها الصغيرتين المرتجفتين أرغفة تلوح بها كلما مرت سيارة مسرعة.
صمود
صباح جديد تكمل فيه الحاجة هادية عاماً ينقضي وهي في أزهى خريف العمر، فهذا الجمال كالسماء لا يعكر زرقتها غبار الرماد، من هنا عبرت عساكر الجيش التركي على الخيل الأصيلة، نفس الدرب عبرته ناقلات جنود الجيوش البريطانية، ووطأت حوافر خيل فرسان الجيوش العربية نفس الدرب، أما الحاجة هادية فلم يهز كيانها زلزلة الأرض بمجنزرات الغزاة تحاصر حلمها.
عندما جلست الحاجة هادية كعادتها اليومية على شرفة بيتها ، وهو حوش قديم يتكون من عدة منازل تؤوي قرابة الستين فردا ، هذا البيت الذي يربض وسط غابة من الأسلاك الشائكة بعد أن شاءت الأقدار أن يمر الجدار بقربه .
قالت الحاجة هادية والتأثر الشديد باد على وجهها:-
- هذا الوضع لم يحدث في التاريخ ، نحن نعيش كالعصافير في قفص في خوف ورعب وألم .
بعد أن تجاوزَ الليلُ منتصفَه بقليل، طوى عبدالرحمن أوراقَهُ، ثم صلّى ركعتين، ودعا ربَّه أن يَهديه إلى اختيارٍ صائب، يدفعُ عنه البلاءَ ويقيه شرَّ غضبِ السلطان.
دلف(1) إلى غرفِ أولاده للاطمئنان على أغطيةِ أبنائِهِ الخمسة وبناتِهِ الأربع.. قبّلَ ابنتَهُ الصغيرة، ثم أوى إلى فراشِه، وهو يُسِرُّ (2) – كعادته – قصارَ السُّوَر من القرآن الكريم.