التفاعل الإنساني عبر التاريخ مع النصوص ذات الطابع الخاص في القراءة واللحن والتلاوة له امتداد تاريخي طويل يمتد منذ مئات السنين ما قبل الميلاد والذي مرّ بمختلف الديانات والمعتقدات والمجاميع البشرية على اختلاف أمكنتهم وأزمنتهم ، وهذه النصوص تختلف في نظمها وصياغتها وخصوصا التي لها غرض الإتصال بالسماء والتقرب إلى الإله أو الرب أو المعبود ، أشهر هذه النصوص الشعرية هي " نشيد الخلق " الشهير والذي كان يتحدث عن الواحد الذي هو أساس الكون ويسبق الفصل بين الوجود واللاوجود ، وهو من بدايات الفلسفة في الهند تحديدا ، حيث كانوا يسمّون الأناشيد الإبتهالية والأشعار التي نظمت لهذا الغرض " بالفيدا " والتي تتلى بنهج خاص ولحن محدد وكثيرا ما نسمع بتمتمات لها عبر الأفلام وغيرها والتي تتحدث عن الحضارات ما قبل الميلاد ، هذا النشيد نظماً ولحناً لا أحد يستطيع تحديد مصدر وجوده ولكن يجزم كثير من الفلاسفة ومفسروا التاريخ أنها مغروسة بالفطرة متجذرة في الطبع البشري لا تنفك عنه .
عرف الأستاذ مالك بن نبي _ رحمه الله _ أن معاناتنا تنبع أساساً من الثقافة فجعل مشكلة الثقافة محور فلسفته وعنوان أحد أهمّ كتبه وخاض في الكدح المعرفيّ لطرح القضية بجلاء ومن كل جوانبها ،والتمس الحلول المناسبة على أكثر من مستوىً، ومازلنا مع المشكلة بل لعلّها زادت حدّةً بسبب انحباس التفكير والسلوك في ثقافة الأزمة ، فقد تهنا منذ دخول الاحتلال الغربي إلى اليوم بين الانفتاح المجنون الّذي يؤدّي إلى اللاهويّة وبين الانغلاق الغبيّ الّذي لا يحسن سوى التكرار بلا ذاتية، فكادت الثقافة تموت عندنا لأنّها قليلة التفكير، وفقدنا المعالم وسادت ثقافة الإلغاء والاستبعاد ، فكلّ كاتب أو متكلّم لا يرى سوء فضاءٍ ضيّقٍ واحد حكر عليه لا يتّسع لصاحب رأي مخالف أو طرح مغاير فانتفخ الأنا وأصبح الآخر هو العدو و هو الجحيم، ومن أراد أن يعترف له أحد بوجوده فليكن فقط إمّعةً وليرتدِ لباس الخدم فسيعيش مستريحاً لكنّه لن يتحرّك إلاّ بإشارة السيّد الأوحد الأعلم الأقوى ليقول ما يرضي هذا السيّد وينثر حوله البخور، لهذا لا تعرف دنيانا نحن – في الغالب - سوى ثقافاتٍ باردةٍ هابطةٍ متحجّرةٍ بينما ينعم آخرون بثقافات حارّةٍ صاعدةٍ منتشرةٍ، وهذا ما يصنع الفرق بيننا وبينهم...
جلد الذات مرض نفسي يجعل الإنسان يضخّم أخطاءه ويتلذّذ بالحديث عنها و"يعيد السكّين في الجرح" للشعور بمزيد من الألم، ويبقى يدور في هذا الفلك بسلبيّة تزيد حاله تدهوراً، أمّا النقد الذاتي الصريح فهو عمليّة واعيّة لإبصار عيوب النفس وتحديد أخطائها لعلاجها وتصحيح المسيرة.
هذه مقدّمة ضروريّة بين يدي موضوع يسلّط الضوء على بعض الجوانب غير المشرقة في وضعيّة الأمّة حين تأخّرت عن ركب الحضارة، قاصداً إبراز الجرح ليس من أجل إحياء آلامه ولكن ابتغاء تطييبه، ذلك أنّنا بين تيارين متناقضين في تقويم حال أمّتنا وعطائها، لا يرى أحدهما إلاّ السلبيّات ، ويستخلص من طرحه ألاّ أمل في الإصلاح، ويغمض الآخر عينيه عن حقائق الواقع المتردّي ويتفنّن في التفسير التآمريّ كأن كلّ شيء عندنا بألف خير لكن الأعداء يختلقون ويأفكون ويهوّلون.
يعلن السلطان العثماني عبد المجيد الحرب على روسيا عام 1853 ويعطي العالم درساً في الأخلاق والحضارة في هذا الإعلان. فقد كان نصف البيان مخصصاً لبيان الأسباب التي دعته لإعلان الحرب، ولطلب المساعدة من خديوي مصر ونصفه اللآخر مخصصًا للتشديد على حسن معاملة رعايا العدو أوتباع دينه، الموجودين داخل الدولة العثمانية "والإحسان إليهم وأن يكونوا على الدوام مشمولين بالعدل والأمن والراحة طبقاً لأحكام الشريعة المنيفة المطهرة".
سبب إعلان دولة الخلافة الإسلامية الحرب على روسيا عام 1853:
لما لم تنسحب الجيوش الروسية التي كانت قد احتلت ولايتي مولدافيا وفلاخيا اضطرت تركيا أن تعلن الحرب على روسيا في 4 اكتوبر 1853م. وأرسل السطان عبد المجيد إلى عباس حلمي باشا الأول خديوي مصر فرماناً بالتركية يعلمه بإعلان تركيا الحرب على روسيا ويأمره بتنبيه الأهالي إلى الإكثار من الدعاء بنصرة الدولة العلية، وإلى عدم التعرض لرعايا روسيا والدول المتحالفة معها ومعاملتهم باللين والحسنى.
مقدمة :
منذ مدة، ليست بالقصيرة، تجول في نفسي خاطرة أودّ أن أفرغها في مقالة، لعل غيري ينتفع بها، أزيَد مما انتفعت.
إنّ منظومة العبادات الخاصة، المعروفة في الإسلام، من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وتلاوة للقرآن، وذكر لله تعالى، منظومة متكاملة، شرعها الله تعالى لنا، وعلمنا إيَّاها رسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، لتربيتنا عَقَدياً وروحياً ونفسياً واجتماعياً وبدنياً.
فكلٌّ منها يبني جداراً أو أكثر في حياة المسلم، ويربي فيه جانباً أو أكثر مما ذُكر.ولعل أعلى هذه العبادات مرتبة، وأجمعَها لنفع الفرد وخيره -إذا صلحت- هي الصلاة، فلذلك عدّها الرسول عمود الدين، كما ثبت في الحديث الصحيح، ورغّب فيها، وحثّ عليها بالقول والفعل، وبأساليب شتّى، حتى عدّها معيار الفلاح أو الخسران يوم القيامة، فأوّل ما يُحاسب عليه المرء يوم القيامة الصلاة، فإنْ صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله.
فمزايا الصلاة كثيرة، لا تكاد تحصى، وليس هذا موضع ذكرها، ولكن أذكر لها ميزة جامعة، تنبّه لما وراءها:
أكره بشدة تقديس الرجال، ولا أحب أن أكون تابعًا لأحد، فأنا أقود نفسي وأديرها، ألست أنا من سيقول يوم القيامة نفسي نفسي، إذًا لم التبعية السلبية التي تلغي العقل وتسيّر التفكير.
أكره بشدَّة تقديس الرِّجال، ولا أُحبُّ أن أكونَ تابعًا لأحد، فأنا أقود نفسي وأديرها، ألستُ أنا مَن سيقول يوم القيامة: نفسي نفسي؟!
إذًا لِمَ التبعيَّة السلبية التي تلغي العقل، وتُسَيِّر التفكير؟!
"إني حَصَان فما أُكّلم ، وثَقَاف فما أُعَلَّم"
أم حكيم بنت عبد المطلب
أرجو ألا تظنوا أنه موقف عليائي، وأن أم حكيم -رضي الله عنها- قد استبد بها الغرور فقررت التوقف عن تحصيل المعرفة. بل هي وصفت نفسها بالثقافة لا بالمعرفة، وشتان شتان ما بين الاثنين. المعرفة في المحصلة العامة تجميع للمعلومات مع بعض العمليات التنظيمية التي تضمن للعقل استرجاع المعلومات بالشكل المناسب وفي الوقت المناسب. وقد يكون لأحدهم اطلاع موسوعي، وقد يختزن عقله الكثير من الأرقام والنسب والأحداث والمقولات، لكن إياك أن تظن أنه مثقف بالضرورة، هو عارف وحسب.
أما المثقف (أو الثقاف كما وصفت أم حكيم نفسها بصيغة المبالغة) فهو شخص لا يحتاج أن يُعلّم، لأنه تعلم كيف يتعلم، وخبر آليات اكتساب المعرفة، وتجاوزها إلى شيء أكبر وأعمق: الثقافة. وهذا لا يعني أن المثقف عارف بكل شيء، بل هو يملك قاعدة معقولة من المعارف، انطلق من كتفيها إلى أفق أرحب وهو التثقف. وعلي أن أشير هنا إلى اللبس الذي كثيرا ما يحدث بين الثقافة التي أتكلم عنها (أو المثقفيّة نسبة إلى كون الشخص مثقفا) Intellect وبين الثقافة بمعنى القيم والسلوكيات السائدة في مجتمع ما أو مؤسسة Culture.
الصفحة 12 من 40