في ليلة غرة شهر رمضان المبارك من كل عام، جرت عادة في منزلنا اعتدنا عليها منذ نعومة أظفارنا، ألا وهي إغلاق ما يسمى بجهاز "التلفاز"، فتلفزيون بيتنا يصوم معنا ولكن صيامه "ليل نهار" ، ويفطر عند رؤية هلال العيد، وهذا قرار صارم غير قابل للتغيير أوالتعديل صادر عن "وزارة الداخلية" وهي الوالدة الحبيبة حفظها الله.
ما زلت أتذكر كم كنت أستغرب في طفولتي، حين أرى الخادمة في ليلة رمضان تغلق جميع تلفزيونات البيت، وتغطيها بذاك الغطاء الذي يحميها من الأتربة، وكأننا مسافرون لمدة شهر إلى الخارج.
نحاول أنا وإخوتي في طفولتنا الشقية أن نقنع الوالدة من أن لا تمنعنا من متابعة الأفلام الكرتونية على أقل تقدير ، ولكن كانت ترد علينا بعبارتها الشهيرة " كل البرامج ستعاد بعد رمضان، لابد أن نودع الشيطان لنرحب برمضان" والشيطان هو المصطلح المستخدم عند الوالدة العزيزة في إشارة إلى الشاشة الصغيرة.
ثم في المرحلة المتوسطة تغيرت الاهتمامات وكذلك القنوات، فجذبتنا المسلسلات المحلية والمسابقات الرمضانية ،وغيرها من البرامج التي يعلن عنها بشتى أساليب الإغراء والإثارة، لربط المشاهد وجعله أسيرا أمام التلفاز ، وظننا أن الزمان كفيل بتغيير بعض القرارات الأسرية "العتيجة"* حول هذا الشأن، وحاولنا استخدام "الواسطة" وهو الوالد الفاضل حفظه الله ، ليسهل أمورنا كعادته الكريمة ، وطلبنا منه التدخل لرفع الحصار عن التلفاز ، ولكن وجدناه هذه المرة في صف الحكومة ضد الشعب المظلوم ، ولم يسعفنا لقناعته التامة بصواب القرار .
ولكن أعترف أنه مع مرور الوقت ومر السنوات ، تسللت هذه القناعة شيئا فشيئا ، وتشربت قلوب جميع أفراد الأسرة، وبعض الأهل والأصدقاء والجيران أيضا، فالبعض منهم طبق هذا القرار فعليا في منزله، و آخرون لم يطبقوه ولكن أيدوه وشجعوا فكرته قولا ، وغيرهم بدأ بالعمل به تدريجيا ، من خلال تقليل ساعات المشاهدة ، أو غلق التلفاز في العشر الأواخر على الأقل .
أذكر حادثة طريفة بهذا الشان ، فقبل سنوات سافرت الوالدة في شعبان للعلاج ، وتأخرت في عودتها ودخل علينا رمضان، وفي ليلة رمضان قالت أختي الوسطى بشغب وشقاوة وليس بجدية : "يا الله، سنشاهد التلفزيون في رمضان هذه السنة، أمي مسافرة ومحد راح يمنعنا"، فردت عليها بسرعة البرق أختي الصغرى التي كانت في الابتدائية آنذاك : "كلا، نحن لا نشاهد التلفزيون برمضان ،حتى لو أمي مو موجودة ، ال T.V يصوم معانا ".
كم سعدت حينما سمعت هذا الرد العفوي المليء بالبراءة. ها هي الأيام أثبتت ثمرة التعود على الخير ، فأثلج صدري موقف أختي التي كانت تختلف عني حين كنت في الابتدائية .
لا أنكر أنني هذا العام أيضا تحايلت على والدتي ، ولكن ليس لأجل مسلسل كرتوني أوبرنامج محلي، بل لخاطر البرنامج المميز"بيني وبينكم" للشيخ محمد العوضي، والذي يعرض على قناة "الراي"، ولكن وجدت الرد نفسه من الداخلية " كل البرامج ستعاد بعد رمضان، لابد أن نودع الشيطان لنرحب برمضان."
صديق وحبيب
تخيل صديقا عزيزا عليك وقريبا من قلبك ، يزورك بعد فراق دام عاما كاملا ، وأنت تنتظره بلهفة وشوق، وعندما يدخل منزلك فلا تعانقه بحرارة، ولا تقضي معظم وقتك معه ، ولا تعيره أي اهتمام ، بل تهمله وتشاهد التلفزيونن وتنشغل بأعمالك اليومية وتجلس مع أصدقائك ، وتكثر من الزيارات والمناسبات، وكأنه غير موجود، طبعا هذا مستحيل.. أليس كذلك؟!! لأنك صاحب ذوق رفيع ، وتعرف الأصول والاتيكيت والذرابة، إذن لماذا نتجاهل ضيفا حبيبا يهل علينا برحمة ومغفرة وأجر عظيم، ويجلب لنا غنائم لا تعوض، لماذا نتجاهل أيام وليالي هذا الشهر الغالي؟
كلماتي:
أيها الإنسان
لماذا الصد والهجران؟
لماذا الظلم والعدوان؟
جميعنا في الله إخوان
جميعنا من خلق الرحمن
أصلنا تراب
وبقاؤنا سراب
وبطشنا خراب
فكفانا حراب
إلى متى الطغيان؟
ومصيرنا
كفن وقبر وحشر
أمام رب الأكوان!
________________
* عتيجة: كلمة كويتية تعني القديمة وهي تحوير لكلمة عتيقة.
الصفحة 258 من 432