المحاكمات الأخيرة لأقطاب نظام مبارك والتي تذيعها القنوات الفضائية المصرية تعيد بقوة الحديث عن العدالة الانتقالية وما وصلت إليه في مصر، خاصة وأن الحياة السياسية المصرية عرفت منعطفات شديدة الأهمية بعد الثورة من المرحلة الانتقالية إلى فترة حكم مرسي إلى نظام 3 يوليو الذي ما يزال مستمرًّا إلى الآن بعد أن حظي بغطاء شرعية انتخابية .
العدالة الانتقالية كمفهوم سياسي وأخلاقي وقانوني ظهرت بعد موجة التغيير السياسي التي اجتاحت أوروبا الشرقية في التسعينيات من القرن الماضي مع أن أشكال من العدالة الانتقالية كانت موجودة عمليًّا في تجارب سابقة مثل الثورة البلشفية والفرنسية، وكان هدفها الرئيسي تسوية الموروث السابق من الانتهاكات بهدف بدء صفحة جديدة مع نظام يحترم حقوق الإنسان والتصالح مع تاريخه، إضافة إلى تعزيز الثقة في قدرة النظام القائم على تحقيق العدل والالتزام بالقانون .
أول اعتراض صدر من الملائكة على خلق الإنسان أنهم سيفسدون في الأرض ويخرجونها عن النسق الذي وضعه الله لها: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وفي هذه الدعوى إشارة بليغة إلى أن الإفساد في الأرض منافٍ لما يقنضيه وجود الإنسان في الأرض كخليفة مسؤول عن إدارة شؤونها وإعمارها بما يعود على البشرية جمعاء بالخير، وهو في نفس الوقت أول ما يتبادر إلى الذهن من الجرائم التي يرتكبها الإنسان.
انتصرت غزة. هذا هو ملخص مشهد الحرب الدامية على غزة، التي مر على بدايتها شهر ولم تنتهِ بعد.
وهذا الداخل الذي أعنيه قد يكون مقصودًا به داخل غزة نفسها، بمعنى أن أهلها المعرضين للخطر ليل نهار لا يلقون لهذا الخطر بالاً ويتمسكون بمشروع مقاومتهم ويلتفون حول حقهم في الدفاع عن أرضهم ومقدساتهم.
استهل عبد الوهاب المسيري مؤلفه (اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود)، بمقدمة عبر من خلالها عن جدة الموضوع الذي سيتناوله، طارحًا في الآن ذاته الهيكل العام الذي يستوحي من منجزه تصوراته في إطار مقاربة نسقية، تتوخى إضفاء نوع من الوحدة والتماسك على مختلف الحقائق الثقافية المرتبطة بالظواهر الإنسانية. إذ ينطلق الكاتب في مقاربته من سيادة الاعتقاد القائل بأن هناك نموذج معرفي، بمثابة الإجراء التوليدي الكفيل بتفجير مختلف ينابيع البنى الرمزية التي يهبها الإنسان للظواهر. والنموذج برأي الكاتب هو ذاك الواحد الكثير في مرائي مراياه، الذي تنتظم وتصطف بداخله تلك التعددية وفق نوع من المعقولية الداخلية، يكون فيها كل من الإله والطبيعة قطبي الرحى أما مركزها فهو: الإنسان. فهذا الأخير عنصر التوسط الإلزامي من شأنه صياغة الواقع وفق بنية تصورية ترادف رؤية الإنسان للكون، تعكس هذه البنية نموذجًا معرفيًا من بين نماذج معرفية أخرى (من تصور الإنسان).
منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية المسماة بالجرف الصامد والانتهاكات ضد القانون الدولي الإنساني لم تتوقف؛ بدءًا من قصف المباني السكنية، والمساجد، والمستشفيات، ومقرات منظمات دولية وإنسانية مثل مقر الهلال الأحمر الفلسطيني في غزة ومدرسة الأونروا. وعقب ذلك تم تسجيل إدانة واسعة لهذا العمل غير المسؤول من قبل دول عرفت بموقفها الملتزم بمساندة إسرائيل. إضافة إلى ذلك، فإن الاستهداف الواسع للأحياء السكنية نتج عنه أن معظم الضحايا من المدنيين، وهذه الملاحظة التي سجلها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان تُعتبر إضافة لشهادات فردية من أطباء أجانب وعاملين ضمن منظمات دولية وإنسانية. نفس الأمر حدث في الضفة؛ إذ زادت وتيرة الاعتقال العشوائي خلال الفترة الأخيرة خاصة مع انتفاضة القدس في أيام رمضان الأخيرة.
قبل أن تجيب على هذا التساؤل انظر من حولك يمينًا ويسارًا وشمالاً وجنوبًا وفكر مليًّا وابحث كثيرًا؛ لتدرك بأنه بمجرد سقوط غزة فإنه لم يعد هناك من معقل لمقاومة أو إيقاف مشروع إسرائيل إلا في تلك البقعة من الأرض، وأنه بمجرد الإعلان عن سقوط غزة ونزع سلاح حماس سوف تشطب كلمة (الصراع العربي الإسرائيلي) من قاموس المفردات ليحل محلها كلمات ومعاني كثيرة كلها تحمل في طياتها أكبر معاني الخضوع والخنوع والمهانة.
الصفحة 63 من 432