في عام 2007 م كتبت الطالبة الجامعية سمية الميمني مقالاً تحث فيه الطلبة على العطاء من خلال التبرع لمحو الأمية في العالم، وكان عنوان المقال "ادفع دينارين واكسب الدارين"، ويهدف المقال إلى تشجيع الطلبة على التبرع والعطاء لتعليم الفقراء في العالم، وفي 2010 م تبنت الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية فكرة المقال وكاتبته الأخت سمية الميمني ليتحول من كلمات على السطور إلى مشروع خيري تطوعي عالمي يجمع الطاقات الشبابية المتنوعة، ويهدف إلى غرس العمل الخيري في نفوس الشباب وتشجيعهم على العمل التطوعي، كما يهدف إلى تشجيع الطلبة على المنافسة في الأجر والثواب من خلال المساهمة المالية، والتأكيد على مبدأ "قليل دائم خير من كثير منقطع"
أعتقد بأن الفكرة لا تعرف الحدود، فهي تحتاج إلى عقل يفكر ثم إلى فن لتخرج إلى أرض الواقع ثم تتحول كالعدوى تنتشر من شخص إلى شخص، ويتكفل التاريخ بباقي العملية (الفكرة = عقل + فن+ تاريخ) وكل فكرة هي في حقيقة الأمر ثورة على الواقع، والشعب العربي عندما أخرج شعار (الشعب يريد إسقاط النظام) وهو مطلب فوضوي أرهب الحكومات المتمسكة بالعقلية التي تتميز بالديمومة، وقد يتبادر لنا تكرار التجربة الإيرانية في الوطن العربي، لكن التجربة لابد لها من فكرة أم وقد تعود إلى مرحلة البحث والثورة العقلية التي خاضها النبي إبراهيم - عليه السلام -، فالدكتاتور يمجد الصورة والظهور فهو يرسم نفسه في عقلك، ويتشبه بأنصاف الآلهة القديمة التي آمن بها اليونانيون القدماء، فهو ذلك البطل الذي يحرس الوطن ويحرس المشروع الأبدي وعندما يموت يوصف بالراحل وكأنه لازال في مهمة مقدسة لاتنتهي ولا تزال روحه تطوف من حولنا، فالعقل البشري (الآدمي) يميل إلى الغباء والسذاجة، فهو يمجد الديمومة حتى يظهر ذلك المفكر المتميز الباحث عن الحقيقة، فنحن نعلم بأن إيران لم تكن أيام الشاه تنتظر الخميني، لكنها كانت تنتظر صوت يتكلم باسمها، يضحي بنفسه في سبيل القضية فهو ظاهرة تاريخية؟ نحن لا زلنا نبحث عن العقل الأول الذي فكر في هذه الجملة التي تبناها الشارع العربي (الشعب يريد إسقاط النظام)، كان على تفكيك الجملة فهي تجمع معادلة بسيطة (الثورة = الشعب + الاسقاط + النظام) وكأن النظام يجلس في مكان عالي في قمة الهرم، والشعب الثائر يقبع في القاعدة. إن هذه الفوقية التي تميز النظام العربي، التي رغب الشعب في إنزالها إلى القاعدة اعتبرها النظام ثورة ومؤامرة،
هذه المؤامرة الكونية على سوريا ماذا تريد؟ هذا الموقف العالمي المخزي من ثورة الشعب السوري، وعدم توفير ملاذ آمن للسوريين على أرضهم حتى اليوم، يدل على رغبة في تمزيق الشعب العربي السوري وإلغاء وجوده. فما يخيف العالم من سوريا حرة ديموقراطية؟ سأحكي قصة.
جُرِّدَ السيف الدمشقي ليلة واحدة عام 1956، فقامت الدنيا ولم تقعد. ولم يطل الأمر حتى صارت سوريا العدو الأكبر للسياسة الخارجية الأمريكية، فحضر الأسطول السادس وتمركز قبالة مياهنا الإقليمية أشهرًا عديدة، ونزل المارينز في تركيا، وتم تعزيز واستنفار القواعد البريطانية في قبرص والعراق، وحشدت تركيا الأطلسية الكمالية جنودها على طول الحدود السورية (وكنت شخصيًا شاهدًا على ذلك؛ حيث كان أبي قائدًا لكتيبة الحدود الأولى في الدرك السوري). لم يقل هؤلاء ماذا يريدون، لكنهم قالوا بأنهم يخافون أن تتحول سورية إلى الشيوعية. وافهموها كا تريدون. وفي تلك السنة كان دخل الفرد في سوريا هو الثاني في آسيا بعد اليابان.
وأروي هذه القصة نقلااً من مذكرات بطلها العقيد محمد سهيل العشي، من عائلات دمشق العريقة، وهو مشهور بأدبه، وتواضعه، وإنسانيته، وبقلبه النابض بحب بلده.وهو من ناحية خريج كلية أركان الحرب في إنكلترا، وكلية الحرب العليا في فرنسا، قائد سابق لسلاح الطيران، والمرافق العسكري السابق للرئيس شكري القوتلي، رئيس الجمهورية.
يروي سهيل العشي أنه استلم مهمته كقائد للواء الثالث مشاة المتمركز على الجبهة السورية بداية عام 1956، ووجد لواءه "رابضًا في مكانه منذ ثلاث سنوات متعاقبة، وكان انتشار قواته بكاملها على مواقع الجبهة ضد إسرائيل، وكأن هجومًا وشيكًا سيقع. مما يسيء بطبيعة الحال إلى مستوى تدريبه وإلى حالته المعنوية، لذلك ألح على القيادة بوجوب إعادة هذا اللواء إلى الخلف لإعادة جاهزيته ببرنامج مكثف من التدريب، وذلك بعد إعطائه فترة من الاستراحة".
"وبعد طول مراجعات مع القيادة العامة، وافقتْ على عودة اللواء الثالث إلى معسكرات قطنا لإعادة التأهيل، ووصل في العشر الأول من شهر أكتوبر عام 1956، حيث أعطيتُ مأذونيات استراحةٍ للجنود، وصف الضباط، وبعض الضباط. وبدأتُ أضع برامج التدريب المكثف"، لوضع اللواء في جاهزية قتالية عالية خلال عدة أشهر.
لكن هجومًا إسرائيليًا وقع على مصر في الساعة الخامسة من مساء يوم 29/10/1956، وفي صباح يوم 30/10/1956 استدعت القيادة العامة للجيش العقيد سهيل العشي، وكلفته بقيادة ما سُمِّيَ "بالجَمْهَرة السورية الأولى" المشكلة من لواء مشاة، ولواء مدرعات، وفوج مدفعية، وفوج هندسة عسكرية. وكلفته بمهمة هجومية ضد إسرائيل فجر يوم 31/10 على أن تبلغ القوة خط الهجوم في نابلس بالأردن عند منتصف الليل، وعلى أن تكون هذه الجمهرة تحت تصرف القيادة الأردنية. وقد حاول العقيد سهيل العشي عبثًا الحصول على لواء مشاة آخر غير ا"للواء الثالث مشاة" المحتاج للراحة وإعادة التأهيل إضافة لوجود قسم عظيم من جنوده في بيوتهم في إجازة. وأمام إصرار القيادة على هذا اللواء اشترط العقيد دفع رواتب الجنود الشهرية فورًا وقبل التحرك من المعسكر.
هل سمعتم ما قاله الرجل؟ - توقفوا فقد سمعنا عجبًا:
1- بدأ العدوان الإسرائيلي على مصر الساعة الخامسة عصرًا. فتحركت القيادة السياسية على الفور، واجتمعت، ودرست المستجدات، وحزمت أمرها واتخذت قرارها، وبلّغت أمرًا صريحًا لقيادة الجيش بشن الحرب الشاملة على إسرائيل من جبهتين بغية احتلال نصف إسرائيل الشمالي لجر الجيش الإسرائيلي بعيدًا عن الأراضي المصرية. وقامت قيادة الجيش بدراسة الموقف وإعداد الخطط تلك الليلة وتم استدعاء العقيد العشي في صباح تلك الليلة لتنفيذ الجزء الخاص به من قرار الحرب، كل ذلك خلال أربع عشرة ساعة فقط.
اهتز السيف الدمشقي في غمده.
وللقيادة السورية السياسية كل الإجلال والإعجاب. ظهرت البطولة من هؤلاء المدنيين ذوي البذلات الأنيقة.
2- ما لا يعلمه القراء أن هذا الأمر لم يكن شأنًا داخليًا سوريًا محضًا، وإنما جرى بالتنسيق مع مصر التي تجمعها مع سوريا قيادة عسكرية مشتركة أُنشئت عام 1955، ومع الأردن، التي اتُفِقَ على تشارك في الهجوم الذي سينطلق من جبال نابلس، ومع العراق الذي تعهّد بإرسال قوات دعم لمؤازرة الجيشين السوري والأردني. كل ذلك خلال هذه الساعات الأربع عشرة نفسها. وللسيف الدمشقي ظل واسع في أرض المنطقة العربية كلها، فقد تعود العرب أن قيادة كجهودهم الحربي عبر العصور.
3- أصر العقيد سهيل العشي، المكلف بقيادة الجمهرة السورية الأولى، على استبدال لوائه المتعب والمفتقد للتدريب، فما استُجيب له، فقد أُخفيَ عنه أن الجيش السوري بأسره سيشترك في الهجوم بكل قواته على اختلاف جاهزيتها. إن إحساس القائد بالحالة البدنية والنفسية والقتالية لجنوده هي مفتاح سيطرته الفعال على قطعته العسكرية وشرط لازم لحسن تقديره، ودقة قراراته، وجودة أداء هذه القوات لمهامها.
4- فلما رأى إصرار القيادة العامة للجيش على استخدام هذا اللواء نفسه في الحرب، طلب دفع الراتب الشهري فورًا لجنوده وقبل التحرك للأردن. ذلك أن الرواتب في سوريا تدفع سلفًا في بداية الشهر لكل موظفي الدولة المدنيين والعسكريين، ونحن في الثلاثين من الشهر. فإذا غادر الجنود اليوم وقبضوا رواتبهم غدًا، فما فائدتها لجندي في بلد غريب، ترك أهله للجوع والفاقة؟ وهل يملك أحد منهم قرشًا في نهاية الشهر ليتركه لأهله؟ أيسير العسكري للقتال ويترك أسرته بلا مال ويبقى ذهنه مشغولاً عندها طول الوقت؟ هكذا أعاد سهيل العشي سيرة قادة الفتح الإسلامي، يوم كان العسكر إخوة للأمير ومساوين له في الكرامة، هكذا وضع السيف الدمشقي في يد رجل أعاد سيرة قادة الفتح ،وسار على نهجهم.
من حالة السلم إلى الهجوم الاستراتيجي العام في ثلاثين ساعة
ويكمل العقيد سهيل العشي قصته عما فعله بعد تلقيه الأمر من القيادة العامة للجيش السوري، فيقول:
"واستعملت كل الوسائل لإعلام العسكريين المأذونين بالالتحاق بالسرعة القصوى"، "وأصبحت مكاتب أركان اللواء في قطنا ورشة عمل دائم سواء للعمل داخل اللواء أو للاتصال بمختلف الوحدات المنضمة للجمهرة"، "وقد حضر جميع عسكريي اللواء، وقبضوا رواتبهم، وتأهبوا للمسير، وأخبروا أسرهم بالمجيء إلى ثكنات قطنا لقبض رواتبهم"، "وأصدرت أوامري بالتحرك الساعة الثالثة عصرًا".
"وكانت دهشتي وإعجابي كبيرين عندما وقفت أمام باب الثكنة أرقب مغادرة الوحدات المقاتلة، وقد تجمعت عائلات العسكريين على طرفي الطريق مع إشارات الوداع وتمنيات التوفيق دون أن تدمع عين أو يرتفع صوت بغير تمنيات النصر".
لم تكن نساءٌ فقيراتٌ واقفاتٍ على باب معسكرات قطنا بل كانت أخوات الخنساء هناك واقفات.
الظروف السيئة ليست عذرًا لعدم تنفيذ الأوامر:
تراكم عدد من الظروف السيئة المتعلقة باللواء الثالث مشاة لكنها جميعًا لم تمنع اللواء من بلوغ هدفه في الوقت المحدد:
- كان اللواء في حالة استنفار ومواجهة مع العدو لمدة ثلاث سنوات طويلة أي أنه متعب ولم يتلق تدريبًا طيلة هذه المدة.
- معظم جنود اللواء في إجازة بعد ثلاث سنوات من الاستنفار، ويفتقر اللواء لوسائط التبليغ والإعلام الحديثة المتوفرة اليوم.
- كما يفتقر لوسائط المواصلات والنقل القادرة على نقله مع عتاده ومستلزماته وذخيرته من ثكناته لمواقع انطلاق الهجوم.
- يفتقر اللواء للذخيرة؛ فالموجود منها لا يكفي للاستمرار في خوض المعركة.
السر: وحدة متماسكة في ظروف شائكة؟
نصف السر هو القيادة المؤهلة. فالقائد هنا مؤهل علميًا كأفضل ما يمكن في عصره، ومؤهل عمليًا بتوليه مهام وقيادات عسكرية مختلفة خلال مسيرته المهنية أي أنه جمع العلم، والخبرة، والقدرة على اتخاذ القرار.
هذا نصف السر. وبقيته أنه كان على علاقة ممتازة بضباطه؛ يعاملهم باحترام ورجولة كإخوة وأشقاء. ولذلك نراه يشير إليهم في كتابه بكل الحب والتقدير ويشيد بالصداقة التي جمعته بهم مدى الحياة. كما قريبًا جدًا من جنوده، يعلم أدق حاجاتهم العسكرية والمدنية؛ أي ما يتعلق بتدريبهم وبصحتهم ونفقات أسرهم. وهو يقول أنه يدين لهم بالعرفان لأنهم بادلوه الحب بالحب والتقدير بالتقدير، "فكُنَّا وحدة متماسكة في ظروف شائكة".
إذا استطعت أن تتواصل مع العسكري وتحوز ثقته بصفتك قائدًا (تحوز العلم العسكري والشخصية القيادية) وقدوة له (بأمانتك، وتفانيك، وكريم أخلاقك)، وإذا استطعت إلى جانب ذلك أن تُفْهِمه مفردات واجبات عمله، وأن تزرع فيه الرغبة في القتال لبلوغ الهدف العادل للحرب، فلن يقف أمامك عائق لتحقيق أهدافك، ولن يصمد أمامك عدو، ذلك أنك حُزت القوة التي لا تقهر وامتلكت "وحدة متماسكة" ولتكن الظروف بعد ذلك شائكة أو غير شائكة.
عبد الناصر يبُطل هجوم الفجر وضباط الجيش السوري ينفجرون بالبكاء:
"بدأتُ بإعداد الأوامر لوحداتي المقاتلة، بأن أعين لها أمكنة تواجدها، على أن تكون جاهزة فيه في مطلع الفجر، وكانت الساعة قد قاربت الثانية من صباح يوم 31/10/1956، لقد كانت مهمة قاسية جدًا"، هكذا يقول سهيل العشي عند وصوله لجبال نابلس ليلاً.
"وفي هذه الساعة، يطلبني اللواء علي أبو نوار على الهاتف، ويأمر بالتوقف عن عمل أي شيء فيما يتعلق بالمهمة الهجومية، وأن أعود إليه فورًا".
ولما وصلت إليه، أبلغني أن الأوامر صدرت من القيادة المشتركة في القاهرة، تطلب التوقف عن أي هجوم، وأن تنتقل القوات كلها إلى مواقع دفاعية". فاحت رائحة الخيانة، ولم يتمالك ضباط الجيش السوري أنفسهم لحرمانهم من القتال استعدوا له، ومن ثأر يتلظى في صدورهم، ومن نصر كان قريبًا من أيديهم، فانفجروا بالبكاء.
كان رائد القومية العربية الزعيم الملهم جمال عبد الناصر قد أعطى لأمريكا عام 1952 تعهدًا بتجميد القضية الفلسطينية عشر سنوات، ولم يكن قد مضى على هذا التعهد سوى أربع سنوات فقط. لكننا نحن الجمهور الذي كان يهتف بحياة عبد الناصر،لم نعرف ذلك إلا منذ سنوات قليلة فقط.
لم يبطل جمال عبد الناصر هجومًا عربيًا على شمال إسرائيل بقوة جيشين، وهي منشغلة على جبهة القناة، وينقذ رقبتها فقط، وأنما وأد بهذا القرار الخياني العمل العربي المشترك كله. فلو تم الهجوم السوري، لصارت عادة أن تهب الجيوش العربية لنصرة بعضها كلما تعرض أحدها للعدوان. تم ذلك عام 1948 وكان على وشك أن يتكرر عام 1956، ويترسخ كعُرْف في تاريخنا المعاصر.
الجيش حركة ونار، والارتداد إلى إربد:
كضابط مقتدر، لم يرض العقيد سهيل العشي أن تبقى قواته في خط الانطلاق للهجوم دقيقة واحدة بعد إلغاء أمرالهجوم. كان يعتقد دومًا أن "الجيوش حركة ونار" وليست للخنادق أو الاستعراض. لذلك فإنه فور تبليغه بإلغاء الهجوم، قام على الفور بالارتداد إلى العمق ولم تشرق عليه الشمس إلا وهو في صُويلح في ضواحي عمَّان حتى لا يترك قواته مصفوفة على سفوح نابلس أمام العدو الإسرائيلي لتصبح لقمة سائغة لطيرانه ومدفعيته. وحين عرض عليه الملك حسين البقاء في مكانه، أبى وفضل أن يربض في مكان يكون له فيه اتصال بري بقاعدته في سوريا، فكان أن أعطي مهمة الدفاع عن القاطع الشمالي من الجبهة الأردنية ومقره في إربد.
السيف الدمشقي حرًا:
من الذي أعطى لقائد الجمهرة السورية أوامره ومن الذي أملى عليه قراراته؟ حينما كان يعين الخليفة قائدًا لجيش، فقد كان يعطيه الصلاحية الكاملة للتصرف لتحقيق مهمته، دون أن يملي عليه تفاصيلها.
هذا المبدأ الهام في القيادة الذي فقدناه في أيامنا هذه فقتلنا روح المبادرة واتخاذ القرار عند ضباطنا ومسؤولينا، حتى بتنا ننتظر قرار الرئيس أو الوزير في أتفه الأمور، وأصيبت بلادنا بالشلل. وأبرز مثال على خطورة هذا البلاء أنه حين قامت القيادة الأمريكية بتقدير الموقف قبل غزو العراق الأخير عام 2003 فإنها وضعت في حسابها وبوضوح فقدان الضباط العراقيين لروح المبادرة وعجزهم عن اتخاذ القرار، ولذلك بادرت لتدمير وسائل اتصالهم بقياداتهم، مما جعل القِطَع المقاتلة تقبع عاجزة عن القيام بأي حركة بانتظار أوامر قيادتها.
الهجوم الرئيسي من الجولان:
لم يكن الهجوم السوري المخطط على العدو الإسرائيلي لإجباره للارتداد عن الجبهة المصريةن موجّهًا من جبهة الأردن فقط. بل إن رفض قيادة الجيش السوري تعزيز "الجَمْهَرة السورية الأولى"، إنما كان بسبب الاحتفاظ بأقوى القِطَع الحربية للهجوم الكبير على إسرائيل من جبهة الجولان بقوات الجيش السوري وحده وبدون مساعدة من أي دولة عربية أخرى. وليس تحت يدي تفاصيل ذلك، لكني رويت مرةً ما ذكرته آنفًا في مجلس كبير في عجمان قبل عدة سنوات، فإذا بشيخ كبير ينتفض ويقول، ونحن أيضًا على الجبهة (جبهة الجولان) وفي الوقت عينه، جاءنا الأمر بالتقدم لاحتلال خط الهجوم الأول، وغمرتنا الفرحة، فقمت وحملت جهاز اللاسلكي الضخم على ظهري وتسلقت تلاً ووضعته في خندق معدٍ في أعلى ذلك التل، ولولا الفرح وشدة الانفعال ما تمكنت لا أنا ولا غيري من حمل هذا الجهاز الثقيل منفردًا.
قررتُ احتلال مطار المفرق
ونعود للعقيد سهيل العشي حيث يتابع في مذكراته: "بعد أيام من استقرار الجمهرة في أوضاعها الجديدة، وجدت أن الطائرات الإسرائيلية تمر في سمائنا لتهبط في مطار المفرق وبالعكس. ولم يكن من الطبيعي أن أتحمل وجود قاعدتين عدوتين منتشرتين أمامي وخلفي، فقررت احتلال مطار المفرق. لكني استأذنت بذلك قائد الجيش الأردني علي أبو نوار. لكن الإلحاح كان قويًا بعدم اللجوء لهذا العمل، لأن أخبارًا قريبة جدًا سوف تذاع وتزيل هذا القلق".
وبالفعل، فإنه لم يمض أكثر من 24 ساعة، حتى سمعنا من إذاعة الأردن، أن الملك حسين قرر إلغاء المعاهدة البريطانية. وصدرت لنا الأوامر بدخول المطار واستلامه، وكذلك الثكنات التابعة له.
أعيد التأكيد هنا على أن ضمير المتكلم في المقطع السابق يعود إلى العقيد سهيل العشي قائد الجمهرة السورية الأولى المتمركزة في إريد بشمال الأردن. وأن الزمن كان شهر نوفمبر تشرين الأول من عام 1956. وأن المطار كان قاعدة عاملة ناشطة للقوات الجوية البريطانية، وأن بريطانيا كانت وقتها إحدى الدول الأربع العظمى المنتصرة في الحرب، وعضوًا دائمًا في مجلس الأمن، وكان لها ثلاث قواعد جوية أخرى عاملة في المنطقة هي قواعد: الحبانية في العراق، وأكروتيري في قبرص، والعضم في ليبيا.
والمتكلم ليس مجنونًا أو ذا خيال مجنَّح، لكنه ضابط كبير مؤهل، عنده من العلم والثقة بنفسه وبقواته ما يؤهله لتنفيذ قراره. ولما أملت عليه الضرورة احتلال مطار المفرق، فَعَل. لم يتلكأ بانتظار الأوامر من القيادة بدمشق حتى لا يدخل في لعبة الحسابات السياسية، ولم ينتهك حرمة السيادة الأردنية وهو ضيف على أراضيها تجنبًا أيضًا للمشاكل السياسية، بل بادر بإبلاغ قيادة الجيش الأردني بما نواه، وأعطاها المهلة التي طلبتها، وتحرك في التوقيت المناسب ليبرق السيف الدمشقي الذي أغمد بعد معركة تشنق قلعة أو Suvla Bay في 9 يناير عام 1916، حيث شارك بكل الكفاءة والاقتدار الآلاف من أبناء سوريا في فرقتي المدفعية 23 و26. من الجيش العثماني ويوم أن فتحت هذه المدفعية النار على القوات البريطانية الغازية، صار هذا اليوم يومًا للحزن والحداد الوطني في إستراليا، وما زال كذكك حتى اليوم، لأن الإنكليز وضعوا الاستراليين في مقدمة جيوشهم فوقعت بهم أفدح الخسائر البشرية.
من أين سطع هذا الجبروت وهذه القوة؟
ما الذي أنتج كل هذه الكفاءة والمقدرة؟
الجواب بسيط، إنه الانتماء.
كان الحكم في سوريا دستوريًا برلمانيًا. السلطة فيه للبرلمان المنتخَب، ثم لرئيس الوزراء الذي يعينه البرلمان والذي يعتمد بقاؤه في الحكم على صوت واحد، وكان البرلمان مكونًا من 120 عضوًا نصفهم من المستقلين والنصف الآخر يمثل جميع الأحزاب بدءًا بالحزب الشيوعي وانتهاء بالإخوان المسلمين، مرورًا بالحزبين الليبراليين القويين: ا"لشعب" و"الوطني"، وكان التمثيل شاملاً ولم يكن أي طيف سياسي غائبًا عن البرلمان. وكان هناك فصل تام بين السلطات الثلاث؛ التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.
كانت كرامة الناس موفورة وكانوا يحكمون بالقانون المدني السوري العتيد. ولم تكن هناك حالة طوارئ معلنة رغم أن الظروف المحيطة بالبلد كانت خطيرة. وكانت الصحافة حرة مئة بالمئة، لا توفر أحدًا ولا تخاف من أحد. ولهذا هرع الناس متطوعين غير مدفوعين لتشكيل المقاومة الشعبية دعمًا للمجهود العسكري للبلاد.
كان الرئيس شكري القوتلي يرحمه الله مناضلاً سابقًا بروحه وماله ضد الاستعمار، حكموا عليه بالإعدام خلال الجهاد ثلاث مرات وأبقاه الله ليموت على فراشه عند استيفاء أجله. ودخل العمل العام ثريًا وخرج منه لا يملك بيتًا لسكناه. كان من الطهارة والكبرياء بحيث وضع جبهته في جبهة ونستون تشرشل وأنفه على أنفه وهو فوق طرَّاد بريطاني في البحيرات المرة عام 1942 وحين صاح شرشل مفتخرًا وقال: "ألا تدري أنت مع من تتكلم، أنا القائد العام لقوات الحلفاء"، فأجابه شكري القوتلي بكل ثقة صارخًا: "وأنا زعيم الشعب السوري". وبعد الاستقلال رضي شكري القوتلي أن يصبح رئيسًا دستوريًا لبلد الحكم فيه للبرلمان، ثم قامت قواته باحتلال مطار تشرشل -مطار المفرق البريطاني بعد مهلة لم تزد عن 24 ساعة.
السيف الدمشقي قاطع في غمده:
لم يقدِّر الله تعالى للهجوم المشترك السوري الأردني أن يتم. لكن سوريا مع ذلك فجرت أنابيب النفط البريطانية والأمريكية التي تعبر أراضيها، وفجرت محطات الضخ التابعة لها، وأسقطت قاذفتي قنابل كانبيرَّا بريطانيتين انتهكتا أجواءها في مهمة استطلاعية، وأخيرًا دمرت وأغرقت أكبر قطعة بحرية فرنسية بنيت في التاريخ بيد الضابط البحار السوري المسيحي البطل "جول جمَّال". وسجلت سوريا صفحة عز، تلتها صفحات مجيدة للجيش العراقي الذي كان قلبه على الشام يهب لنجدتها كلما استشعرت خطرًا.
أعرفتم الآن ما الذي تبغيه قوات التحالف في سوريا؟
التدقيق اللغوي: أنس جودة عبد التواب.
الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد الدال على كل خير المحذر من كل شر˛ وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ثمة نساء يردن المساواة - أو بالأحرى التسوية – وفق نمط الذكر˛ ولكن ألا توجد بدائل أخرى تسعى النسوة من خلالها إلى الوصول لمراحل تفوق الرجال وفق الخصائص الأنثوية ؟ وهل المساواة تصلح في هذه الحالة أم أنها إجحاف في حق الطرفين ؟ ألم يبدأ الغرب بتجريد المرأة الغربية من كل صفاتها الجوهرية ؟ ألم يجعلها سلعة تباع وتشترى ؟ وإذا كان حال الغرب هكذا فإن بلاد المسلمين قد سارت مقلدة لما طبقه الغرب الملحد˛
السمائيون.
فالتاريخ الجديد الذي يكتب اليوم هو محاولة إلى المشي نحو الأمام ومحاربة العقلية التي تسببت في كل المشاكل مهما كان مصدرها. لسبب بسيط: أن دارس التاريخ هو السياسي الذي أدار وجهه إلى الخلف بينما المفكر السياسي هو مؤرخ حول وجهه إلى الأمام. محمود عوض
-(... لقد جئت تسألني عن الأحلام. إن الأحلام هي لغة الرب، عندما يتكلم بلغة العالمين، أستطيع تفسير كلامه، ولكن عندما يتكلم بلغة روحك، فليس هناك أحد سواك يستطيع الفهم) لقد فقدنا الثقة في العقل العربي، بسبب عجز المفكرين في تنفيذ مشروع واقعي يخرج الأمة العربية من نفق الجهل الذي اختلط مع الساسة، فرجعت الشعوب العربية إلى الدين وتركت الدنيا لفئة من السياسيين الذي جعلوا من السياسة وسيلة من أجل الاستيلاء على الثروات التي يزخر بها الوطن العربي، فظهرت الدعوة الجديدة على يد دعاة جدد يدعون أنهم يعرفون الدين الصحيح المخلص من الألم الذي يتشاركه العرب في فشلهم أمام حضارة الرجل الأبيض، وأن كل ما يحدث هو بسبب الأثيمين، وبسبب آفة العصيان لأوامر الله، فانقسم الشعب بين أصحاب الدنيا وأصحاب الآخرة. فظهر نمط حياة غريب عن القرن الواحد والعشرين، نمط حياة إسلامي، ففي أوروبا عندما تتجول قد تجد قصابة لبيع اللحم الحلال (رمز الهلال) ومطاعم بدون لحم الخنزير، وجمعيات تطالب بحق المرأة في لبس الحجاب، والبنوك الإسلامية، ويرغب الكثير من المغتربين بتأسيس حزب إسلامي في أوروبا التي أغلب دولها علمانية كافرة، أما في الدول العربية فأصبح الفرد يبحث عن شيخ دين يعلمه الدين الصحيح، وانتشرت المواقع الإسلامية على الإنترنت، وظهرت مستشفيات إسلامية تجعل من الرقية والحجامة ميزتها في العلاج مع الأعشاب الطبية النادرة، وظهر مع كل هذا نجوم الدعوة السلفية الذين يفهمون كل شيء ومنهم من تبنى شعار (صناعة الحياة) شعارًا كبيرًا بحل كل مشاكل العالم الإسلامي، لكنه لم يستطع حتى قيادة مجموعة من الشباب في أداء مناسك الحج، ومع كل هذا ظهر مفسرو الأحلام، حتى أن المشير المصري السيسي سرب عنه تسجيل صوتي بأنه رأى في المنام (قال للرئيس الراحل أنور السادات أنه سيكون رئيس مصر)، وحتى في منصة رابعة العدوية في تجمع الإخوان ضد الانقلاب تكلم الخطباء عن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم يدعمهم في تمسكهم بالرئيس محمد مرسي، وهذه الحالات التي أعتقد أنها أعراض السرطان الفكري الذي أصاب الفكر الشعبي، هذا الفكر الذي لم يعد يسمع إلا لغة الرجال القادرين على فهم اللغة الإلهية، إن القارئ للتاريخ هو الذي يستطيع النظر إلى السماء بلغة الأرض فتصبح كالمرآة، فهو يتكلم معها ويفهم إرادتها، وهذه مشكلة الشعوب العربية عندما وقعت المصيبة رجعوا إلى الأساطير ولم يرجعوا إلى الحقيقة. إن قدماء المسلمين فهموا لغة السماء كالصوفي الذي عرف أن حقيقة الوجود غير موجودة، فنحن خلقنا لغرض واحد وهو عبادة الله الخالق لكل شيء ونحن نعادي ذلك الكائن الشرير الذي يسمى الشيطان. إن الذين يعيشون بلغة السماء موجودون بالفعل، ويعرفون النتائج من المقدمات، ولقد عرفوا أن هناك مشكلاً في التاريخ وهو غياب المواجهة مع الأمريكان، وغياب وسائل المواجهة الفعالة، وهذه الجماعات الإسلامية المسلحة التي تقطع الرؤوس ما هي إلا رقصة المذبوح أمام العالم الرقمي (النظام العالم الجديد)، لأنهم يريدون الجنة الآن، يطرقون أبوابها بعملية انتحارية هنا وهناك لكن لن تغير شيئًا، لأن العولمة كتبت بلغة المستقبل التي لا تعترف بلغة السماء من يوم اعتمدت نظرية التطور في المدارس التي قطعت الحبل السري بينها وبين السماء، فهم (الأمريكان) يعتقدون أنهم من سلالة قرد تطور عبر الزمن ليغني الروك نغول، ويمشي فوق القمر، وينخرط في صفوف المارينز، أما غير المتطورين فهم الذين يؤمنون بأصل الخلق (أبناء آدم عليه السلام) من كتاب مقدس؛ نعم نحن غير متطورين، فالإنسان الديني يرتبط بالماضي بالبداية من الأرض خُلق وإلى الأرض يعود. فالمسيحي الأبيض يختلف عن المسيحي الإثيوبي، رغم أنهما يعتقدان بذلك التمثال المصلوب في كنائسهم، فالأبيض يعلم أنه قد لا يقول الحقيقة من أجل أداء امتحان العلوم، أما الأسود فلا يهمه الأمر. داروين أحمق والكنيسة تقول الحقيقة دائمًا.
****
هناك كثير من الناس ينظر إلى الكويت أنها بلد صغير المساحة وموردها الوحيد هو النفط فقط، وعندما يدور الحديث عن العمل الإنساني يبرز الدور الكبير الذي تقوم به الكويت بلد الإنسانية، فلماذا هذه الدولة الصغيرة بمساحتها أصبحت كبيرة بعطاياها وشكّلت مركزًا إنسانيًّا على مستوى العالم؟ ولذلك لابد علينا توجيه الأنظار إلى هذا الدور الإنساني الضخم الذي تقوم به دولة الكويت أميرًا وحكومةً وشعبًا.
فمنذ أن تولى سمو أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح منصبه كان من أوائل القادة المبادرين أمام كلِّ أزمة من الأزمات الإنسانية التي واجهت الشعوب المتضررة، مثل: (فيضانات باكستان - جفاف الصومال - محنة غزة - أزمة سوريا وغيرها من الدول المتضررة)، فعلى سبيل الذكر لا الحصر كانت التوجيهات الكريمة من سمو الأمير مباشرة في توجيه المنح الإنسانية المباشرة لتلك الشعوب المنكوبة، بل زاد الخير والبركة إلى استضافة سمو الأمير لمؤتمرات المانحين التي جمعت دول العالم لمساعدة الشعب السوري والشعب السوداني وغيرهم من الشعوب المنكوبة، ويكون نصيب الكويت عادةً هو الأكبر في العطاء والمنح في المجال الإنساني لتلك الدول، وكان لها الدور الأثر الكبير في تنافسها وإبرازها أمام الدول المانحة على مستوى العالم.
الصفحة 60 من 432