رباه... رباه... رباه...
رباه... عبدك المؤمن بك... المصدق بكتابك... المقر بوحدانيتك... أتاك راجيًا مستغفرًا مستعتبًا... وقد أنهكته الذنوب، وأرهقته المعاصي، وأثقلته الغفلة... ولم يعد له أمل يتعلق به إلا فضلة من إيمان يضيء نورها في قلبه من بعيد ويهتف به في كل آنٍ ألا تطِل الغيبة ولا تزد سلطان الشيطان على نفسك... فهاك نداء ربك (يا ابنَ آدمَ إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي يا بنَ آدمَ لو بلغتْ ذنوبُك عنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتني غفرتُ لك ولا أُبالي يا بنَ آدمَ إنَّك لو أتيتني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيْتُك بقِرابِها مغفرةً)، فهل بعد هذا النداء من حب وتقرب؟ الله يحبك... الله يناديك... الله يفرح بتوبتك!
الحمد لله رب العالمين. العالم عالمين. عالم الإنس وعالم الجن، عالم الغيب وعالم الشهادة، عالم الواقع الافتراضي وعالم الواقع الحقيقي. أيضًا الواقع واقعين، واقع حقيقي بعالم افتراضي وواقع تخيلي بعالم حقيقي. كثيرون يعتقدون أن الواقع الحقيقي هو العالم الذي نحياه بين الناس وأن الواقع الافتراضي التخيلي هو العالم الذي نخلقه بأنفسنا لأنفسنا في خيالنا.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} (سورة الصف:، الآية 4)
ترى، ماذا بقي لنا كي نصل إلى هذه المرحلة، مرحلة البنيان المرصوص؟
بقي الكثير، الكثير. بقي علينا أن نتعلم كيف نقف بإحسان في صفوف الصلاة. وأعني بذلك أن نحرص ذاتيا على ذلك دون أن يتطوع بعضنا بالتذكير أنّ "إقامة الصف من حسن الصلاة"، ودون أن يكبّر الإمام، فينشغل أصحاب الصف بدعوة/استجداء من خلفهم كي يكلموا صفهم المليء بالثقوب، ودون أن يضطر أحد إلى جذب من هو بجانبه كي يعتدل الصف. على التصاف أن يغدو فعلا طوعيا، وهَمًّا ذاتيا، وعادةً نشعر بالانزعاج والغربة بل والإهانة دونها.
من حكمة الله تعالى أن فرض الصيام على المؤمنين في ظرف زماني هو شهر رمضان، على امتداد الجغرافيا الدنيوية، ويبقى قدوم رمضان حدثًا تستعد له الملايين من المؤمنين ماديًا ومعنويًا، وتشبه هذه الاستعدادات نوعًا من الاحتفال بقدوم عزيز على القلوب، لما أضفاه نزول القرآن فيه من معاني تستدعي كثيرًا من القدسية لهذا الشهر، فرمزية النزول فيه، جعلت منه شهرًا يفضي فيه الإنسان إلى ربه، منقطعًا عن ملاذت الجسد محولاً ذلك التعب إلى جزء من تنسكه وترويضًا لنفسه.
هرّة نحيلة، لها فراء أبيض ضحل مزين ببقع رمادية، عيناها زرقاوان محاطتان بلون أسود جميل. قررت أن أسميها كحيلة. هل أخبرتكم أن شغفي بالهررة وصل إلى مرحلة إطلاق أسماء على الهررة التي أصادفها في الشارع؟
أعلم أن بعضكم توقف عن القراءة سلفا، وأن البعض الآخر إنْ يستمر في القراءة إلا ليعرف ماذا تقول هذه الكاتبة الغريبة، وقليل منكم يتابع لأنه –وبصدق- يحب مخلوقات الله الأليفة اللطيفة الشفيفة.
حينما مررت بكحيلة، كانت تعتلى حاوية نفايات صغيرة. أخذت تنظر إليّ بتوجس متهيئة للجفول. آلمتني تلك النظرة في عينيها. كل هذا الخوف، والترقب، والعدائية المحتملة. هذا الافتراض أني جئت لأنغّص عليها وجبتها. وجبتها التي يستكثرها عليها الإنسان. الإنسان المجرم الذي اقتلع الهررة من بيئاتها الطبيعية وزرعها في مدائنه كي تكافح القوارض. وحينما أنهت مهمتها، بات يتوجع من الهررة التي تتناسل بإفراط، وتقتحم حاويات نفاياته وأفنية مبانيه، وتستظل أو تستدفئ بسياراته. الحل سهل جدا عزيزي الإنسان، تحمل مسؤولية أفعالك. اجمع الهررة التي جلبتها وارمِ بها في مواطنها الأصلية، و"لا ضرر، ولا ضرار" كما قال الحبيب عليه الصلاة والسلام!
وظل السؤال يعجنني؛ أنيّ ينثّ كل هذا الخوف في قلب كحيلة وعينيها؟
نظراتهم المنكرة تحبس عبراته وترد بكاءه فيغص به. لِمَ يُعرضون عنه؟ لم يضحكون منه؟ لم يكذبونه؟ أوامر ونواه تشله فيقبض على بطنه متألما منزويا، وهو لا يجيد فهما ولا تعبيرًا. ألقوا إليه لعبة أجبرته وحدَتُه أن يحاول تركيبها بصمت فلما فشل ألقوا عليه اللوم والعقاب. ليس أحب إليه من الابتسامة لكنها تساوت مع العبوس بعد أن أمست عنوانًا لعتاب وإهانة ووعيد، وهو لا يجيد فهما ولا تعبيرا. يتنفس الصبح عن يوم جديد وهم يجترون إذلاله زجرََا واستهزاءً وطردًا حتى أجهضوا شخصيته وعطلوا إرادته. لم تعد حواسه المترقبة تنقل إلى حافظة عقله النظيفة النهمة غير العنف والكذب والتسويف وحتى النميمة، فتولدت فيه رغبة عارمة في الإيقاع بمن لا خوف منهم، بالأصغر وبالأضعف، صرفا للأعين والألسن والأيدي عنه وتحقيقًا لفعل شيء ملفت بعدما فشل في غيره، وهو لا يجيد فهمًا ولا تعبيرًا.
الصفحة 64 من 432