تقف الممانعة التاريخية والعناد التاريخي في هويتنا بين الفكر والممارسة مما يستوجب منا كأمة منتفضة على واقعها النظر إلى هذا الحدث "انتفاضة الشعوب العربية"، وإلى تداعياته بعين لا بسيطة ولا مختزلة لأزمنة ولت، وأخرى مستقبلة.
إن أغاليط منهجية في الفكر السياسي الحديث، وتجاهلات مقصودة للمخزون الثقافي لا يمكن أن تبني عهدًا جديدًا، لم يعد ثمة وقت لمشروع ثورة أو مشروع انتخاب أو مشروع ترشيح إذ لا بد من الخروج الواعي من فوضى المعاني إلى صريح المواجهة.
إن الإعلان عن جولة جديدة من الانتخاب والترشيح لا يعني الإعلان عن تجربة جديدة؛ بل ينبغي إعادة التفكير في أساليب العمل السياسي وفق سؤال أي مرشح نريد؟
فالإخفاقات المقصودة وتلك المبنية على طبيعة التجربة الذاتية تعلمنا الدرس الأول: أن معركة في الفكر والسياسة والمجتمع والتاريخ بعناصرهم المكتملة والمتقاطعة تقلص من إمكانية النجاح في غياب المضمون الانتخابي بعدم توفر الخيار الحر وغير المزيف بين بديلين على الأقل، إنه أول الوهن.
برز الحديث عن الهامش في الدراسات الاجتماعية، ومنها إلى الأدب، في خضم محاولة الانتقال إلى ما بعد الحداثة وبالضبط في الدراسات ما بعد الكولونيالية التي اهتمت أساسًا بتسليط الضوء على العلاقة غرب/شرق، مستعمِر/مستعمَر(سابق)، ما بعد الحداثة التي قاربت موضوع علاقات القوة داخل المجتمع بشكل مجمل، وهو ما قورب في تحديد ملامح العالم، الشعوب بالتحديد، بعد خروج الاستعمار، دراسات لها جذور نظرية ترجع إلى القرن الثامن عشر لكن تبلورها النظري بدأ مع فانون، وتجلى مع إدوارد سعيد، ثم غياتري سبيفاك، وهومي بابا بأشكال مختلفة بين كل واحد من هؤلاء، وفي هذا المحضن ظهرت دراسات الهامش، هذا الصنف من الدراسات الذي برز في ثمانينيات القرن الماضي من خلال عدد من الباحثينالذين اهتموا بدراسة أوضاع المهمشين، ويعتبر المفكّر الهندي غوحا، واحدًا من روّاد دراسات الهامش، فهو من قام بوضع أسس هذا الحقل المعرفي في مقال له منشور بعنوان (دراسات الهامش)، وكتابه (الجوانب المبدئية لتمرد الفلاحين في الهند تحت الحكم الاستعماري)، ثم ظهرت بعد ذلك أسماءء كان لها الوقع الكبير في تطوير هذا النوع من الدراسات كهومي باب وسبيفاك خاصة، في مقالها (هل يمكن للهامش أن يتكلم؟)، ودون الغوص كثيرًا في الجانب النظري من هذه الدراسات التي حاولت استدعاء الهامشي إلى الفضاء العمومي وإعادة الاعتبار إليه بإدراجه ضمن مساحات التفكير والنقاش، وتفكيك الخطابات المركزية الغربية ومن ثَمَّ إعادة إنتاجِ معرفةٍ لصيقةٍ بما يتكبَّده البشر من ضروب المعاناة والتهميش نتيجة الممارسات والأخلاقيات التي أفرزتها الفترة الاستعمارية، فإن هذه الدراسات تهتم بكل ما هو في هامش المجتمع كالمرأة والفقير والمثلي والطابوهات...
بالأمس القريب، فقد الفلسطينيون في الوطن والشتات ابن فلسطين البار إبراهيم محمد صالح المعروف بأبي عرب، ذاك الشاعر الشعبي الثائر الذي أمضى جلّ حياته لاجئًا، كغيره من الملايين الفلسطينيين .
لكنّ أبا عرب لون آخر من الناس، أظمته الدنيا كما قال المتنبي، فلما استسقاها مطرتْ عليه وعلى شعبه مصائبًا. فشهد نكبة فلسطين الكبرى 1948م، وطُرِدَ من قريته الشجرة بين الناصرة وطبرية، واستشهد والده في معارك النكبة، وخرج الفتى يجرّ خطاه نحو لبنان ثم سوريا، رأى بأمّ عينيه كيف يُسلب الوطن، ويستشهد أبطاله، ويُنفى شيوخه ونساؤه وأطفاله، فبقيت عيناه تحملان حزناً دفينًا، وبقي صوته الهادر يستمد حنينه وأنينه وهمسه وجهره من القرى والبلدات والمدن التي استولى عليها المحتلون.
وحين فاض كأسه حنينًا وشوقًا أخذ صوته يلهج بالوطن السليب، يبثّ الأمل في النفوس، ويزرع العزيمة الصلبة، ويصبّ نيران غضبه على الغاصبين، وهو بين ذلك كله يصارع معاناة اللجوء والمنفى، ويستمد من وجع الفقراء في المخيمات لوحات فنية رسمتها ريشته أهازيج وأغاني طالما صدحت بها الإذاعة الفلسطينية من القاهرة وبغداد زمنا طويلاً.
قد يتخذ أحد الإنشاء غاية فيقلب الكلمة ويلونها ويلصق بها ويزيد عليها ليهيم في فلسفة تفاسير لها بعدد ذرات حبرها وما تجذبه من أحبار، القوة كلمة تنتفض للَمعان ظاهرها وأبطال أساطيرها وشروحاتها الرقاب والحناجر والأقلام انتفاض المريض المصروع. لكن التاريخ والتجربة والصواب علمونا أن القوة الصحيحة تدوم معك لا يسلبها أحد إلا إن أردت أنت. ابن النبي نوح غرق هاربًا، وعظيم الثراء قارون خسف به، وهتلر ذو الجيوش والعتاد انتحر مختبأ، وإلفس المشهور المحبوب أدمن المخدرات فقتلته. يخطيء من يقول عن أسباب منفصلة عنه إنها قوته، وإن قال وظهر أنه يفعل بها ما يشاء فسيظل يفعل "بما سواه" لا يفعل "هو بنفسه"، ومهما اطمأن إليها فسيتركها إلى حجيرة مظلمة منفردًا. ليس من قوة يحق للمرء الاعتزاز بامتلاكها إلا قوة لا تحوجه إلى من يعرّفه ويقدمه بها إلى غيره ليحفل به ولا إلى التصاقه بها ليثبت مكانته، قوة نابعة منه يحيا ويموت بها عزيزًا مرتاحًا مكتفيًا، لا يتعلق بما لا فضل له فيه كإسم وإرث ونسب ولا يبالي بمنفصل عنه من مال وبشر وأملاك.
لقد كانت السُّرعة التي انتشر بها الإسلام مقارنة بالديانات الأخرى هي السبب الأكبر في لفْتِ أنظار العالم بعامة، والعالم الغربيِّ على وجه الخصوص، لهذا الدين ونبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقاموا على دراسته تارةً، والحرب عليه تارةً أخرى، وإرسال المُغامرين والمكتشفين للأراضي المقدَّسة بحثًا وكشفًا عن أسراره مرات عدة، مما أدَّى إلى إيمان بعضهم به كدِينٍ، كما فعل عقلاؤهم، أو على الأقل الإعجاب به، فتفرَّغ المستشرقون لدراسة سرِّ انتشار هذا الدين من عصر النبوة وإلى يومنا هذا؛ إذ كان انتشار الإسلام في عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ معجزته، تبقى أيضًا معجزةً له في سرعة انتشاره في عصرنا كدليل صدق من دلائل نبوته الباهرة. والمعجزات التي أُثبتُها لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي المعجزات التي أثبتَها له كل من قرأ سيرته المطهَّرة من المُفكِّرين والعلماء، فصارت بهذا المفهوم من شهاداتهم باللفظ الصريح "معجزة". أما انتشار الإسلام على عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعده بعقود، فهو معجزته التي شهد بها وأثبتَها بعضُ الأعلام من الشرق والغرب؛ فمِن الشرق يقول الإمام محمد عبده[1]: "اندفَع المسلمون في أوائل نشأتهم إلى الممالك والأقطار يفتحونها، ويتسلطون عليها، فأدهشوا العقول وقهروا الأمم، وامتدت سلطتهم من جبال بيريني الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا إلى جدار الصين، مع قِلَّة عدَّتِهم وعددهم، وعدم تعوُّدهم على الأجواء المختلفة، وطبائع الأقطار المتنوعة، أرغموا الملوك، وأذلُّوا القياصرة والأكاسرة، في مدة لا تتجاوز ثمانين سنة... إن هذا ليُعدُّ من خوارق العادات وعظائم المعجزات!".
كل يوم أكتشف أن الصورة الذهنية الجمعية عند بعض شرائح من مسلمي مصر عن المسيحيين، وعند بعض شرائح من مسيحيي مصر عن المسلمين، تمتلئ بالأوهام، وهذه الأوهام صنعت صورًا ذهنيةً سيئةً في معظم الأحيان، كما أن السينما والدراما التلفزيونية (التي تسمي نفسها واقعية) تقوم بمهمة غير نبيلة حينما تقوم بإعادة بثّ هذه المخلفات الثقافية الرديئة، دون أدنى محاولة لتغييرها، مما يعززها في نفوس معتنقيها، ولا يزيدنا إلا غرقًا في نفق مظلم من الصور الذهنية والأحكام المسبقة السيئة، والأحكام المسبقة المضادة من الطرف الآخر على السواء. لهذا كتبت هذا المقال، محاولةً مني لتصحيح هذه الصور الذهنية الباطلة، التي تكوّن جزءًا من التربة الثقافية للكراهية، والتي هي باطل لا أساس لها إلا الأوهام، ومنافٍ للإسلام تمامًا.
الصفحة 68 من 432