الموت كلما تقدم الإنسان في العمر أصبح أليفًا، مجرد طقس يتكرر بإسراف، ينسحب على إثره جارٌ لنا في الكون إلى لا مكان تاركًا خلفه في القلوب بعض الذكريات وبعض الحنين، يرتفع إحساس اللامبالاة بالموت في قلوبنا، خاصة عندما يفقد أحدنا ذلك الشخص الذي، لسبب ما، يصبح كل فقد بعد فقده هينًا، كان ذلك الشخص بالنسبة لي هو أبي، وأصبحت بعد موته لا أهتم كثيرًا بمن مات ولا من عاش.
لكن في ذاكرة كل منّا حتمًا ذلك الشخص الذي لا يعرفه إلا في عالم الخيال، مع هذا فقد ترك في قلبه ندوبًا و مسرات، وانتابه حلمٌ صغير ليس له أي منطق أن يراه ذات يوم ويحاكيه، "جابرييل جارسيا ماركيز"، كان بالنسبة لي ذلك الشخص الواقف علي قارعة هذا الحلم الذي احترق منذ عدة أيام فقط، لينضم إلى كومة من رماد أحلام كثيرة قد احترقت في الطريق إلي كتابة هذا الكلام.
نعم سقط "ماركيز" في الفجوة التي لابد له منها، بعد عراك شديد مع مرض السرطان بدأ منذ عام "1999"، وظلت الملائكة تنتظر وفادته، حتى قبل حزمة من الساعات.
لقد قام القبر بهضم جسده تمامًا، لكن ضوء روحه الغامض الذي انسحب إلى اللامكان، أصبحت خيوطه الآن، وأكثر من أي وقت مضى، معلقة في المطلق بوضوح شديد.
أتتني في سكون الليل أطيافٌ لماضينا وراحت تنثر الأشواق والذكرى أفانينا
أمَا كـنا في جـوف الليل رهـبانًا مصلِّينـا وفرسـانًا إذا ما قد دعا للمـوت داعينا
انتهى عصر القتال بالسيوف وأصبح القتال بالعقول، لقد استبدل الله بالسيوف والبنادق والبارود والدبابات سلاحَ العلم، وأصبح الفارس الحقيقي هو من يهب نفسه للعلم في خدمة بلاده، أصبح الفارس الحقيقي هو من يسعى لتحقيق النهضة، أصبحت التكنولوجيا هي المحرك الرئيس للحروب وللاقتصاد؛ ولذلك تجد كل الدول تقف في وجه إيران حتى لا تنتج طاقة نووية سلمية لتدخل بها حقبة القرن الواحد والعشرين في مجال التصنيع والبحث العلمي، لماذا؟ لأننا مسلمون، ويجب ألاَّ نمتلك التكنولوجيا حتى لا نقود العالم كما قدناه آلاف السنين! ولذلك قاموا بتغييب عقول شباب المسلمين- وأنا أركز على كلمة شباب - بكل أنواع المغريات؛ بداية من المواقع الإباحية، والموضة، والفن الهابط، والبحث عن عمل في ظل فساد إداري مُستشرٍ في كل شيء حتى في البيوت، وإعلام غائب ومغيب، هل تعلمون أن إسرائيل كانت تنوى اغتيال عبد الحليم حافظ بعد أغنية القدس؟! (في بعض الأحيان يكون الفن هادفًا) لأنها تعلم أن الفن له سلاحان، واحد بناء والآخر هدَّام، وكنا كعرب إبان هذه الفترة متحدين على كلمة رجل واحد، وحاربنا سويًّا كعرب ومسلمين، فما حدث بعد ذلك؟
أغرقنا بإعلام هابط، وفن مبتذل، وبطالة، ومخدرات، ودعارة، وموضة، وتقاليد غربية، تغييب كامل ومتعمد من قبل يهود وهبوا أنفسهم لوأد الإسلام منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، مرورًا باغتيال عمر وعثمان وعليٍّ رضي الله عنهم جميعًا، وحتى الآن، خطة مدروسة ومتقنة.
وأنا أحييهم والله!
في السادس من أغسطس/آب عام 2014 تصادف الذكرى التاسعة والستين لتفجير أول- ونأمل أن تكون آخر- قنبلة نووية صنعها الإنسان.
بدأت الفكرة من رسالة صغيرة وجهها ألبرت أينشتاين عام 1939 إلى الرئيس الأمريكي آنذاك فرانكلين روزفلت؛ ليفتتح بها عصر القنبلة النووية. وقد جاء في نص هذه الرسالة: "السيدَ الرئيس: اطلعتُ شخصيًّا على الأبحاث الأخيرة لفيرمي وزيلارد، وإنها لتبعث على الأمل في أن عنصر اليورانيوم قد يتحول في المستقبل القريب إلى مصدر جديد ومهم للطاقة؛ فالظاهرة المكتَشفة ستؤدي إلى تركيب قنابل من نوع جديد، يؤدي انفجار واحدة منها في مدينة إلى تدميرها وتدمير ما يحيط بها".
وفيرمي الذي ورد ذكر اسمه في الرسالة هو الفيزيائي الإيطالي إنريكو فيرمي، الذي اضطر للفرار للولايات المتحدة – مثل أينشتاين- من السرطان النازي والفاشي الذي استشرى في جسد أوربا، وهناك قرر أن يتابع أبحاثه في الفيزياء النووية، لكنه كان بحاجة لتمويل مادي كبير، وكان الحل الوحيد هو إقناع الحكومة الأمريكية بأن التجارب النووية ستؤدي في النهاية إلى اختراع سلاح رهيب يمكن استخدامه في الحروب، فكان أينشتاين أفضل شخص يمكنه القيام بالتسويق للفكرة فهو يتمتع بشهرة وسمعة عالمية، كما أن الوضع العالمي آنذاك وبداية الحرب العالمية الثانية ساعدا كثيرًا على اقتناع الإدارة بفكرة المشروع.
نظرًا لسرية الأمر؛ فقد تم اختيار المنطقة الواقعة تحت أحد ملاعب التنس في مدينة شيكاغو، فوق أرض الملعب ضُرِب سياج من الحرّاس والحراسة المشدّدة، وتحت أرضه كان يقوم فيرمي بالتحضير لتجربة خطيرة وهي تحقيق تفاعل متسلسل لانشطار نوى اليورانيوم بحيث يمكن التحكم فيه وتوجيهه.
هل قتل السلطان العثماني مراد الرابع عام 1638 البطريرك اليوناني كيريللس الثالث؟
السلطان مراد الرابع
عكفت على سيرة بطريرك الروم الأرثوذكس في القسطنطينية "سيريلو لوكاريس"Cirilo Lúcaris ) "1572-1638) والذي سمي فيما بعد "كيريللُس الثالث"، باعتباره كاتب تاسع ترجمة لاتينية لمعاني القرآن الكريم(1). وكان غرضي أن اختصرها في أربعة أسطر كتعريف بصاحب الترجمة. لكني وجدت في النهاية اتهامًا للسلطان العثماني مراد الرابع بقتله، دون أي مقدمات تبرر ذلك، وكانت الأدلة الظرفية تشير إلى جهة أخرى، فاضطررت لإعادة القراءة والتدقيق فيها لأتبيّن صحة هذا الخبر.
عالج الفيلسوف الألماني كانط في القسم الثاني من كتاب " النزاع بين الكليات" الذي نشرمنذ عشر سنوات بعد اندلاع الثورة الفرنسية عام( 1798)م، سؤالا خاصاً بفلسفة التاريخ: هل النوع البشري في تقدم دائم نحو الأحسن؟ وفيه قدم تأويلاً فلسفيًا طريفا للثورة يقرأها لا في حدثيتها أو وقائعيتها التي قد تفضي إلى انهيار صروح راسخة معها يصبح من كانوا عبيدًا بالأمس أسيادًا اليوم، أو قد " تكون مليئة بالبؤس والأعمال الفظيعة"، بل في الحماسة التي قوبلت بها عند غير المشتركين فيها، وهو الأمر الذي رأى فيه كانط أمارة على استعداد خلقي لتقدم البشرية، بل وتجسيدا له. قبل تسليط الضوء على هذه القراءة " الطريفة" لنطرح سؤالا : أية علاقة يمكن إقامتها بين أحداث سياسية صرف ( انتفاضات- ثورات) تجري هنا أو هناك في هذا الوقت أو ذاك، وبين أمر يمس الإنسان لا بوصفه جنسًا، بل بوصفه " جماع البشر المجتمعين على الأرض في مجتمع والموزعين إلى شعوب"، ويمس التاريخ كله، ماضيه وحاضره ومستقبله ( أي تقدم النوع البشري بأكمله)؟ على أي أساس يمكن الجزم بأن النوع البشري في تقدم، و" التنبؤ" بأنه سيواصل هذا التقدم نحو الأحسن؟ هل على شاكلة ما يفعل رجال السياسة الذين يفسدون بمكرهم وسوء مخططاتهم ضمائر الناس، ثم يعاملونهم بعد ذلك معاملة الوسائل، متنبئين بأنه إن لم تشدد القبضة عليهم ثاروا وعصوا؟ أم على شاكلة رجال الدين الذين يتنبأون بأن الساعة قد اقتربت وبأن زمان المسيح الدجال قد حان، فلا يعملون من خلال إلزام الناس بشعائر وطقوس تاريخية مغرقة في الشكليات إلا على حدوث ما يتبئاون به ( قلة الدين والبعد عنه)؟
كتبنا مرة في هذا الموقع مقالة بعنوان (القيم بين المنظور الكوسمولوجي والرؤية التاريخية)، فقلنا إن القيم كما تُفهم انطلاقًا من مرجعية فكرية حديثة ليست غايات مبثوثة في نظام الطبيعة، ولا هي شرائع إلهية حرفية محددة أزلاً وباقية أبدًا، بل هي مُثلٌ عليا علينا أن نسعى إلى تحقيقها، وإنسانيتنا رهينة بهذا السعي الذي يُحرّرنا من ضائقة الانتماءات ويُقرّبنا أكثر من رحابة المواطنة العالمية. لقد قلنا يومها إن الإنسان بعد الثورة الكوبيرنيكية أضحى مدعوًا إلى التشريع بنفسه لنفسه على الأصعدة السياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية. القيم تقديراته هو ولا دخْل للطبيعة أو الخالق فيها. لنُنصت لكلام ثلاث شخصيات من أزمنة فكرية مختلفة بإمعان، عسى أن ندرك الفارق بينها في النظر لمسألة القيم ونقبض على التحولات التي مسّتها في الفكر الحديث.
1. حكيم من العصر القديم: كان الحكيم يُحدّث رواد حَلَقَته من عشاق الحكمة عن أمور السماء عندما جاء أحد عبيده مهرولاً وهمس في أذنه: «سيدي، إن الغوغاء قد عاثوا في المدينة فسادًا، فلا تدخُلْها حتى تهدأ الأمور ويُؤدب العصاة». قضى الحكيم بقية يومه متفكرًا مقارنًا نظام السماوات العجيب بعبث الأرض الغريب، وبهذه الكلمات ناجى نفسه: « ما أخطأت الطبيعة التدبير إذ أسْكنت الفانين قُمامة العالم مع الأجسام الثقيلة والمُسوخ، فهم لا يرعون حُرْمة لنظام العالم ونواميسه. البشر كائنات مشوهة، والخلطة التي رُكّبوا منها تقلب ترتيب الطبيعة فتجعل رؤوسهم في بطونهم وفروجهم، ومع أن أعينهم ترى الآفاق أنّى تطلعت فإنها مُنشدّة بحبال إلى أدران الأرض وغافلة عن كنوز السماء. ارفعوا أبصاركم أيها الفانون إلى الأعالي، وتأملوا البهاء والجمال والنظام. أنى وجّهتم بصركم سترون صنعة بديعة وتدبيرًا مُحْكمًا: فكل شيء في موضعه، ولا شيء يجور على مقام غيره. انظروا حولكم وستجدون حال لسان الأشياء كلها يُحدثكم عن عدالة الطبيعة وموازينها القسط وجمالها. اتّخذوها نموذجًا في تدبير نفوسكم واقتدوا بعدلها في تسيير شئون مُدُنكم كي تستقيم أحوالكم. كلما غفلتم عن ذلك اخْتلّتْ مُدنُكم وفسدت نفوسكم. أنتم في ورْطة يا ساكني القمامة، ولا نجاة لكم مما أنتم فيه من شرور إلا إن أمّرتم حكيما عليكم، إذ هو الذي أهّلته الطبيعة ليقودكم ويُحدث في مدنكم ونفوسكم نظامًا مماثلاً لنظام العالم.
الصفحة 67 من 432