تغتسل المدينة كجميلة على شاطيء مسحور، وقد أحاطت بها هالات ملونة، إنها أقواس قزح التي لا تظهر إلا في مثل هذا اليوم، هذا اليوم ترقب الملائكة أفعال البشر، وتنكشف فيه الأسرار، نعم هذا الجمال الذي تتمتع به المدينة يكاد يأخذ بلباب العقول، زاد تهاطل الأمطار على نحو لم تعتاد عليه على امتداد المواسم، ومعه زاد حيرة حكماء المدينة، ويختلط الأمر على كهنة وسدنة المدن المجاورة، ترى ما الذي حدث اهو الغضب أم زيادة النعم...؟ .
مع إسدال الستارة على النافذة الأخيرة , أرمي للبحر حلمي ,
وأعود لرحم أمـّي , كي تلدني من جديد .
**
مرّ بي ستون احتضار , وما زالت عيناي معصوبتان , لا أرى لكنّي ..أختنق , من رائحة العَرَق المتصبب من جسديهما.
بدأتْ الشاحنة تنزلُ بنا في طريق حلزونيّ ,
والطريق .. تضيق.
تضيق.
لغطٌ غير اعتيادي في الداخل , سيّرني إليه . رأيته واقفا متكئا كتمثال من ثلج على حائط وهي ممدّة على الأريكة مقابل نافذة مطلّة على بحر وكلاهما يلوكُ الكلمات :
_ هذا لا يمنع أن .. ..
*لستَ الأمير الذي سيأتيني بفردة حذاء على قدّ أحلامي.
_ آتيك ِ بالنيل والبحر والهرم لو .....
*أنا في انتظار أمير ليس له وجود إلا في خيالي , لذلك هو حتما ليس أنت...
_ من انتِ لتتعالي عليّ.....!!
* أنا......؟!
................................ أنا جنونك .
ذابَ ثلجه فتدفق خارج الغرفة , غمر في طريقه الزهور فأورقتْ وجرف كلّ الحَصى والطحالب فاخضرّت الحقول.
" أنا الذي
لا نأمة ٌ. هل ماتَ من كانوا هُنا!
لا كلمة ٌ تردُ اللسان- الانتظارُ أم الهجومُ؟
أم التملّص من..
كهذا الصمتُ حين أهيل جمرَ تحفّزي
حتى يبلّدني التحامُ غرائزي: أرعى كثورٍ في الحقول"
سركون بولص
سرب من الحمام الأبيض يخرج من بين فخذيه صوب السماء مباشرة ... يتابع بناظريه طيران السرب بشكله المنتظم لكن تتملكه الدهشة حين يجد حمامة سوداء تنشق عن مسار السرب ثم تتجه نحو الشمس مباشرة تثقبها وتخرج من الناحية الأخرى ثم تهوى في مياه المحيط في حين يظل السرب يطير في مساره المعتاد ... يخشى أن يبوح بالسر لأحد وخاصة أب اعترافه فيكون مصيره "الشلح" وترك الكهنوت الذي عشقه منذ أن رُشم شماساً في السادسة من عمره على يد المطران الذي يخشى الآن أن يرسل له سؤالاً عن كيفية الخروج من الورطة التي سقط فيها لأنه يعلم تماماً أن المطران سوف يعرفه ويعرف حجم مأساته. فى كل اجتماع للمطران مع كهنة المطرانية يحاول أن يبث في نفسه بعض الشجاعة لكنه يتراجع وهو يرى شفتي المطران وهي تنفتح وتنضم لكى تتلو قرار "شلح" جاء لتوه من البطريرك
الوحيد الذى نجا من تلك المماثلة الغريبة بين سكان الحى الذى أقطنه بمدينة القاهرة..مجهول الاسم و العنوان. الجميع يتعرفون عليه ولا يعرفونه .. غامض. وهو بالضبط سر انجذابي اليه . أتلصص خطاه , و ايماءة رأسه, و نظرته نحوك قابض على جفونه , كأنه يسعى لأن يغمضهما . شغلنى: من أى مادة يصنع وجوده هذا البدين القصير اللئيم الذى حارت فيه العقول.. ترى من الرصاص أم من الزهور ؟!
ربما تدهش لو عرفت قراري فور أن رأيتهم حوله, شيوخ الحي يسألونه: لماذا ترفض صحبتنا؟ لماذا تراهن على غفلتنا؟ .. مادمت نجحت في الظهور و الاختفاء بين طرقتنا, فما الذي يمكنك إنجازه أكثر ؟!
اشترى لي أبي حذاءً جديدا صباح يوم 26 يوليو عام 1964، فلبسته وخرجت مع أفراد الأسرة إلى السلسلة لنصطف مع الجماهير المصطفة بطريق الكورنيش الذي سيمر منه الزعيم، ونصفق له، ونهتف باسمه عندما يمر موكبه المهيب احتفالا بذكرى رحيل الملك على يخت المحروسة مغادرا الإسكندرية بعد ثورة 23 يوليو 1952.
قطعنا المسافة من حي محرم بك إلى السلسلة سيرا على الأقدام مع الجماهير الغفيرة المتجهة إلى أماكن مختلفة على طول الكورنيش.