عندما جلست الحاجة هادية كعادتها اليومية على شرفة بيتها ، وهو حوش قديم يتكون من عدة منازل تؤوي قرابة الستين فردا ، هذا البيت الذي يربض وسط غابة من الأسلاك الشائكة بعد أن شاءت الأقدار أن يمر الجدار بقربه .
قالت الحاجة هادية والتأثر الشديد باد على وجهها:-
- هذا الوضع لم يحدث في التاريخ ، نحن نعيش كالعصافير في قفص في خوف ورعب وألم .
كانت تنسج خيوط الشمس جدائل نور تتدلى بين دموع السماء الحزينة.
رأيتها عندما كنت فتى في رحلتي المدرسية إلى المدينة المقابلة..
يومئذ صعدت إلى سطح بيت صمدت أعمدته ، أو تناستها جرافاتهم.. و من خلال المنظار المقرب شاهدت ساعديها الأبيضين و قد انزاحت أكمامها الخضر حتى بض الزندين ، كانت أناملها ما تزال تظهر فوق السحاب الأسود تجمع باقات الضياء.
بيني وبينها عشق كبير ، عشق لا امله عندما ارهف السمع لالتقط حديثها .. نعم لقد أنجزت حفر خريطة الوطن في ذاكرتي ، و توصي بأن اسمي باسم أطلالها اجمل الفتيات ، أصبحت اسيرا لهذا العشق الذي بذرته الحاجة هادية في تلافيف القلب ، يذهب الجميع وتبقى أشنة وصورة أجدادنا العظام .
عندما قلت لها ذات يوم:
" انشاء الله بترجعي للبلد " مطت شفتيها الذابلتين
وقالت :
"انشـــــــــــــاالله" .
للاشياء دوائرها غير المتناهية وللحديث سطوة المطر وللشوارع تفاصيل تتشظى في حنايا الحكايا التي تحبل بها أشنة .
كل الدروب المشرعة، وعلى خاصرتها فاكهة لآخر المواسم،لم تغب عن ذاكرته عند أول الفجر ، كطائر النورس .
قبل أن تدوس جنازير دبابة عمياء، أعتاب حديقة صغيرة، شيدت لطفلة في لحظة الميلاد.
لو كنت ضابطاً، ماكان ليستطيع أن يفعل مافعل. بل كان سيحاول التودّد إليّ، ومن المؤكد أنه سينحني لـ… - عفواً - من أجل أن يحصل على رضائي لأخفّف عنه عبء العمل، أو لأمنحه إجازة يزور فيها أسرته… بل ماكنت لأسمح له أن يسكن في الطابق الذي يعلو طابقي… لأنه جندي وأنا ضابط.
ولكنني لست ضابطاً، وهو ليس جندياً عندي، ولهذا فعل مافعل.
عندما كنت في الصف العاشر، شرح لنا مدرب الدفاع المدني أهمية أن يكون المرء عسكرياً، فالمزايا التي يحصل عليها كثيرة… يأخذ راتباً جيداً… يحترمه الناس.. ويتجاوز المرور في الازدحام. في الفرن يأخذ خبزه بسرعة ويمضي… وفي وسائط النقل يقدّم له الناس أدوارهم .. الشرطة المدنية لاعلاقة لها معه .
"إذا ما رأيتم متداعيا إلى السقوط
فادفعوه بأيديكم واجهزوا عليه.
إن كل شيء يتفسخ
ويتداعى في هذا الزمان ،
فمن ترى يحاول دعم ما هوى؟
أما أنا فإنني أريد سقوطه"
فريدريك نيتشه ،
هكذا تكلم زرادشت
( الترجمة العربية ).ص239
ووجهي على جانبيَّ الطريق المزدحم بالأصوات العالية ، اشتقت إلي السكون فبدا لي من خلف واجهة زجاجية فاندفعت تجاهها ، قبضت على المقبض الحديدي البارد فاستشعرت الرطوبة وهى تتسلل إلي روحي ، تخطت قدماي الباب ، جلست على مقعد وراء الزجاج مباشرة ، تركت التعب يتدلى من أطرافي ، ينـز في قطرات العرق التي تنسحب بهدوء إلي أسفل ، تطلعت حولي . المكان خالٍ من الرواد ، تشغله موسيقى فلكلورية ، تنساب في نغم هادئ متكرر الدقات ، ويتصاعد في نهاية الجمل الراقصة ، يتسلق الجدران وينساب في أذنيَّ .