آخر الليل:
دلف الجنود الى الجبانة في الهزيع الاخير من الليل بجثتين ، كان أولها جسد نحيل ، ممتد كأفق الغروب السرمدي ، خلته جسدي ، والجثة الاخرى ،جسد مقدد انكمش كطفل ، انها اختلاط الحلم بالدم في ملحمة الشهادة بعد ان تحولا الى قنبلتين بشريتين أريد لهما أن يدفنا سرا بدون مراسم تليق بعظيم ، انه الموت والميلاد .
عندها امتلاءت عيوني بالأصيل وقد كست دماء تلك الجثتين أفق الفجيعة ، كأن السيف أضاء ببرقه ديمومة الاحزان ، وهذه اللحظات حبلى بأحلام الترجل وجراح الفرسان .
كان ضعيف السمع ، قد تجاوز السبعين من عمره ، قد اصطبغت لحيته بلون الثلج ، وقد عاد ابنه من الحج ، فذهبت مع من ذهب لنبارك له بأداء مناسكه وبعودته سالماً إلى أهله وأسرته .
وجلست مع من جلس ، وجوه كثيرة لا أعرف منها إلا القليل .
وساد هرج كثير بين مجموعات كثيرة من الجالسين إلا أن الشيخ التفت إلى أحدهم وكان يعرفه جيداً وسأله قائلاً :
أحلام بيضاء
كانت عشقها الاول ، فراشة طاردتها على سفوح طفولتها البريئة ، حاولت اغوائها ، لكنها فضلت التنقل الحر على زهرات الاقحوان البري ، وعلى شجيرات الصبار التي اخذت شكل جدار على حدبة الجبل امتدت بين حواكير وكروم اللوز .
الى ان لطمت الحاجة هادية حد صخرة في باب مغارة على سفح الجبل ، قبل ان تستقر في مدن الغربة لتجد نفسها في ازقة طويلة تطفح بسيول اسنة لا تجف بعد ان جفت أحلامها البيضاء .
البرد ُقارس.
ثمّة مرجل مُتقدّ في نهاية النفق.
في هجعةِ الليل , تُغلفني ظُلمة
باسرَة كشرنقة.
أبحثُ عن بُؤرَة نور .
أعثرُ على قنديل صدئ تحت سرير.
أشعلُهُ.
أخرجُ منَ الباب الضيّق إلى زُقاق ٍ
تفوحُ منه رائحةُ عفونة.
)عبثًا نحاول أن نُعطِّرَ مزبلة ..!(
أسيرُ قُدُمًا لا ألوي على عودة..
تتهدّجُ أنفاسي.أتجهمُ .أتنهدُّ .
أ ُبْصِرُ رُؤىً فاغرةً جراحها كعيون أطفال جائعين.
أفتحُ عينيّ على وسعهما..
أرى ...
صخرة صمّاء تتناوشها الأيدي بالشواكيش لتفتيتها إلى حجارة صغيرة..
خرجت مبكراً ذلك الصباح إلي الحقل ، دون أن أتناول طعام إفطاري لقد كنت غاضباً من أمي التى أخذت الأجرة كلها دون أن تعطني منها شيئا ، علي الرغم من أنها ظلت تقنعني طوال الليل بأنها فى حاجة إلي هذه الأجرة كي تكمل بها ثمن كيلو اللحم الذي ستشتريه غداً من السوق بمناسبة موسم عاشوراء ، حتى نكون مثل بقية الخلق فلا يتطلع أحد من أخوتى الصغار إلي الناس ورغم اقتناعي وفرحي باللحم ، إلا أنني ركبت رأسي ، وفى النهاية رضخت فانسللت من المنزل قبل شروق الشمس آخذاً الطاقية وشمرة القطن ..